في غزة، حيث لا تتوقف الطائرات عن التحليق ولا يسكن صوت القصف، تولد قصص إنسانية تكاد تفوق قدرة القلب على الاحتمال، ليس فقط لأنها مأساوية، بل لأنها تتكرر، وتتراكم، حتى تصبح مشهداً يومياً يعتاد عليه الناس مجبرين، لا اختياراً. هنا لا يتعلق الأمر فقط بدمار المباني أو فقدان الأحبة، بل بدمار أعمق.. دمار النفس والعائلة والمجتمع.
انكسار النساء
هناء، المرأة الأربعينية التي عاشت مع زوجها سنوات طويلة، لم تتخيل أن ينتهي كل شيء في لحظة، ليس بسبب الخيانة أو قلة الحب، بل بسبب الخوف.. من الخيمة، من الجوع، من نظرات الرجال، من انكسار الأم أمام أطفالها. أرادت مكاناً أكثر أمناً لعائلتها، فواجهت قسوة لا تقل عن قسوة الحرب. طلبت طعاماً فخسرت بيتها. طالبت بالكرامة فخسرت شريك حياتها. تقول وهي تمسح دمعة لم تجد طريقها للنزول: “لم أطلب سوى أن أشعر أني ما زلت إنسانة”.
قصتها تختصر ما لا تقوله الأخبار: في غزة، لم تُقتل العائلات فقط، بل قُطعت أوصالها من الداخل. المرأة التي كانت في بيتها قبل الحرب باتت اليوم تتعرض للتحرش في مراكز الإيواء، الزوج الذي كان مُعيل العائلة تحول إلى شخص محطم، يطلق زوجته لأنه لا يستطيع أن يُطعم أبناءه.
تفكك أسري
وفي الطرف الآخر من المدينة، ياسمين، أرملة ستة أطفال، تعيش دوراً لم تختره: أم، وأب، وخبّاز، وشرطي، ومعلّم، ومرشد نفسي. لا تملك من الحياة سوى بقايا خيمة، وكلمات ترددها كل صباح: “اليوم من فيكم بدور على الطحين؟ ومن يجيب مي؟”. كل واحد من أطفالها يحمل على كتفه عبئاً أكبر من عمره، يتزاحمون على طوابير الغذاء، بينما هي تحاول أن تبقي النار مشتعلة في موقدها لا لطهو الطعام، بل لتهزم برد الخوف. تقول بصوت متهدج: “لم أعد أشعر أني امرأة… فقط جسد يمشي”.
المأساة لا تتوقف عند النساء. الطفلة رواء، 14 عاماً، تتسول في شوارع غزة كأنها جزء من نسيج المدينة. عيناها تخفيان طفولة مُسرَقة، وكرامة تنزف. أجبرها والدها، بعد أن انفصل عن والدتها، على التسول مع إخوتها، والسبب ليس الجشع، بل الانهيار. حين يتكسر البيت، ويتحول الأب إلى ظل لرجل، والأم إلى غائبة، لا يبقى للطفلة سوى الشارع. تقول رواء بنبرة مخنوقة: “أخاف أن يعرف والدي أني حكيت، بس إحنا بننام أحياناً بلا خبز”.
انهيار نفسي ومجتمعي
أما حي الرمال، الذي كان في يومٍ ما عنوان الرقي في غزة، فقد تحول إلى ساحة صراعات داخلية. نزاعات مسلحة، خلافات على زجاجة ماء، طلقات رصاص لأجل متر من الأرض يوضع عليه خيمة… المكان الذي كان يحلم به الغزيون للسكن، بات اليوم رمزاً للفوضى والانهيار الاجتماعي. حتى العشائر التي كانت تملك مفاتيح الحل، تقف اليوم عاجزة أمام أناس لا يملكون شيئاً ليخسروه.
الحرب لم تقتل الأجساد فقط، بل كسرت النفوس. خلقت حالة من الفوضى النفسية، والانهيار المجتمعي، والضياع الداخلي. لم يعد هناك أب يحتضن، ولا أم تُهدئ، ولا جارة تساعد، ولا طفل يلعب… كل فرد بات يقاتل لأجل ذاته. غزة، بهذا المعنى، لا تعاني فقط من حصار خارجي، بل من تفكك داخلي يُهدد بأن يترك آثاراً قد تمتد لأجيال.
تمزق العائلات
الدمار النفسي والاجتماعي لا يُرمم بإعادة إعمار المباني. فالعائلات التي تمزقت، والقلوب التي تحطمت، والثقة التي فقدت بين الناس، تحتاج لسنوات، وربما عقود، لتُشفى إن كانت ستُشفى يوماً.
وفي كل زقاق من أزقة غزة، هناك “هناء” و”ياسمين” و”رواء”، قصص لا تُكتب على شريط الأخبار، لكنها تكتب مأساة مدينة تحترق ببطء… من الداخل.