في شمال مدينة القدس المحتلة، تقبع كفر عقب، البلدة الفلسطينية التي لا تبعد كثيرًا جغرافيًا عن مركز المدينة، لكنها بعيدة عنها في كل شيء آخر. كأنها معزولة عن الزمن والنظام، محاصرة بين جدران الاحتلال وإهمال السلطة، ومثقَلة بتبعات الانفجار السكاني والعمراني غير المخطط، ومخنوقة بما تبقى من بنية تحتية مهترئة لا تواكب أبسط احتياجات سكانها الذين يزيد عددهم اليوم عن 80 ألف نسمة.
كفر عقب، من الناحية القانونية، تقع ضمن الحدود البلدية لما يُعرف بـ”بلدية القدس”، إلا أن الجدار العازل فصلها عن المدينة فعليًا، وتركها في منطقة رمادية من التبعية الإدارية، ما جعلها عرضة للإهمال المتعمد، لا هي تحت سيادة كاملة للسلطة الفلسطينية، ولا هي تتلقى خدمات حقيقية من الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يتوانى عن استخدام هذه الفوضى كأداة أخرى من أدوات التضييق.
في أحد الأزقة الضيقة التي بالكاد تمر بها سيارة واحدة، التقت مراسلنا بأبو لؤي، أحد سكان الحي منذ أكثر من 25 عامًا، الذي تحدث بحرقة عن الواقع الأمني المتدهور:
“زمان كنا ننام وأبوابنا مفتوحة… اليوم، كل يوم نسمع عن سرقة سيارة، أو اقتحام شقة، أو صبية عم يبيعوا مخدرات قدّام المدارس. ما في شرطة، لا إسرائيلية ولا فلسطينية. كله سايب، والناس تعبت.”
يشير أبو لؤي إلى أن حالة الفراغ الأمني حولت كفر عقب إلى ملاذ للهاربين من القانون، وحتى إلى منطقة سكن بديلة للعديد من المقدسيين الذين أُجبروا على مغادرة أحيائهم داخل الجدار بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، ولكنهم دفعوا الثمن من نوع آخر: انعدام الأمن، ورداءة الخدمات، وغربة داخل المكان.
في جانب آخر من الحي، يجلس الحاج نزار المصري، وهو رجل ستيني متقاعد من قطاع التعليم، يراقب شارعًا مليئًا بالحفر والمياه الآسنة أمام بنايته السكنية المكونة من ستة طوابق والتي بُنيت دون ترخيص رسمي:
“شو بدك تحكي عن البنية التحتية؟ مفيش صرف صحي حقيقي، الكهرباء بتقطع، الطرق مكسّرة، والناس تعبت من الوعود. كل الجهات تتنصّل من المسؤولية. الإسرائيليين ما بدهم يطوّروا المنطقة لأنها ورا الجدار، والسلطة بتقول ما بتقدر تتدخل لأنه الوضع مش تحت سيطرتها الكاملة. إحنا ضايعين بين اثنين.”
الواقع العمراني في كفر عقب فاقم الأزمة. فبعد بناء الجدار العازل، تحولت البلدة إلى ملجأ إجباري لمقدسيين يسعون للحفاظ على إقامتهم القانونية داخل القدس من خلال السكن في حدود البلدية، وإن كانت خارج الجدار. هذا الأمر أدى إلى نمو عمراني عشوائي غير مسبوق، حيث تُبنى البنايات بشكل متسارع دون أدنى التزام بالمعايير التخطيطية أو البيئية.
الطرقات ضيقة، المدارس مكتظة، لا وجود فعليًا لمساحات خضراء أو مرافق عامة، والنقل العام يعاني من الفوضى والاكتظاظ. أما في الليل، فالصمت الأمني يتحول إلى همس خوف دائم بين السكان، الذين يدركون أن أي جريمة قد تقع ولا أحد سيأتي لمحاسبة الجناة.
لا يمكن فصل ما تعانيه كفر عقب عن السياق السياسي الأوسع. فإسرائيل تتعامل مع هذه المنطقة بوصفها “منطقة عازلة”، لا ترغب في استثمار الموارد فيها، بل في دفع سكانها تدريجيًا إلى مغادرتها. في المقابل، تجد السلطة الفلسطينية نفسها عاجزة – سياسيًا وقانونيًا – عن لعب دورها الكامل هناك، لتبقى كفر عقب نموذجًا صارخًا لسياسات التفريغ والإهمال المقصود.
وفيما ينشغل العالم بالمشهد الأوسع من الاحتلال والاستيطان والتهجير، تعيش كفر عقب مأساة متواصلة بصمت: بلدة تنمو على الهامش، وتُترك لتنهار ببطء تحت ضغط التهميش المزدوج، والغياب المنهجي للدولة، والاحتلال.