منذ نشأة الجمهورية التركية الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923، ظل الصراع على هوية الدولة قائماً بين أنصار العلمانية من جهة، وتيارات الإسلام السياسي من جهة أخرى. ومع كل تغير سياسي كبير، يعود النقاش حول “الدستور” بوصفه مرآة تعكس التوجهات العميقة للنظام الحاكم. واليوم، يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يحاول إعادة صياغة هذه الهوية، عبر مشروع دستور جديد، يزعم أنه “مدني وليبرالي”، لكنه يثير الكثير من الجدل حول نوايا السلطة وإمكانية إخراج تركيا من إرثها الكمالي إلى نموذج جديد، لا تزال ملامحه محل خلاف واسع.
الدستور الجديد: مدني وليبرالي أم غطاء لمشروع سياسي؟
يريد أردوغان أن يُعرف مشروعه الجديد بأنه “مدني وليبرالي”، وقد كلّف لجنة من عشرة محامين لصياغة نص جديد يحلّ محل دستور 1982، مستهدفاً تجاوز إرث العسكر وتحقيق قطيعة رسمية مع المبادئ الكمالية. غير أن هذه الخطوة لا تُقرأ بمعزل عن مسار سياسي طويل، بدأ منذ أن دخل أردوغان الساحة السياسية كمرشح عن حزب الرفاه الإسلامي في التسعينيات، ثم مروره بتجربة السجن، وصعوده مع حزب العدالة والتنمية عام 2002، بمشروع إصلاحي متصالح مع الغرب، قبل أن ينقلب تدريجياً على خطاباته الأولى.
التحول من “أردوغان الإصلاحي” إلى “أردوغان الأيديولوجي” برز بوضوح منذ تفكيك نفوذ الجيش والمؤسسة العلمانية في سلسلة من المحاكمات التي طالت قادة عسكريين وصحفيين من 2008 حتى 2013، وهو ما فتح الطريق لتغيير البنية القانونية والمؤسساتية لتركيا بما يتماشى مع رؤيته المحافظة.
الإسلام السياسي والعلمانية: جدلية لم تُحسم بعد
يرتبط الجدل الدستوري في تركيا بتناقض أعمق بين القيم العلمانية، التي تأسست عليها الجمهورية الحديثة بعد تفكك الدولة العثمانية، وتيارات الإسلام السياسي التي أعادت التموضع خلال العقود الأخيرة. في مناظرة تلفزيونية تعود إلى عام 1995، عبّر أردوغان عن تمسكه بالهوية الإسلامية قائلاً: “نيسين لديه الحرية في أن يعلن كفره، فلماذا لا أملك أنا أن أقول إنني مسلم ومن أتباع الشريعة؟”.
هذا الصدام بين المرجعيتين استمر حتى بعد تأسيس حزب العدالة والتنمية، الذي ظهر بمظهر “الحزب المحافظ المعتدل”، ونجح في تسويق نفسه إقليمياً ودولياً كجسر بين الإسلام والديمقراطية. غير أن السيرورة التاريخية للحزب كشفت لاحقاً أن الليبرالية لم تكن سوى وسيلة، وليست غاية، في إطار إستراتيجية طويلة الأمد هدفها إعادة تشكيل الدولة.
علاقات الغرب وأوهام التقاطع
عند بداية حكمه، حظي أردوغان بدعم واسع من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. تحدثت واشنطن عن “شراكة نموذجية”، ورحبت بروكسل بالإصلاحات القضائية والإدارية التي نفذها حزبه. لكن، ومع تراجع الحلم الأوروبي وتآكل الحريات، بدأت هذه العلاقة بالفتور. انتهجت تركيا سياسة خارجية أكثر استقلالاً، وأظهرت ميلاً متزايداً نحو آسيا والشرق الأوسط، مع توترات متكررة مع شركائها الغربيين.
ما يُعمق الفجوة هو التصور الغربي لحرية التعبير وحقوق الإنسان، والذي يصطدم اليوم مع مفاهيم إسلامية تُروج لها أنقرة، كتلك المستمدة من “إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام”. وبتوقيعها على كل من الإعلان الإسلامي والاتفاقيات الدولية، تجد تركيا نفسها في قلب تناقضات قانونية وأيديولوجية يصعب تجاوزها بسهولة.
المشهد الداخلي: انقسام اجتماعي واحتجاجات متكررة
بموازاة التحول الدستوري، تشهد تركيا انقسامات اجتماعية عميقة، لا سيما في أوساط النخب المتعلمة والطبقات الوسطى. احتجاجات متنزه جيزي عام 2013 كانت أول انتفاضة شعبية ضد سياسات أردوغان العقائدية، وتكررت في مشهد مماثل مع توقيف عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، ما يعكس قلقاً داخلياً من هيمنة رؤية واحدة على حساب التعددية السياسية.
إضافة إلى ذلك، يُنتقد حزب العدالة والتنمية من الداخل التركي نفسه على خلفية انحيازه للطبقات الغنية، ما يُضعف من روايته كحزب “شعبي”، وهي رواية فقدت الكثير من مصداقيتها بعد تدهور الوضع الاقتصادي وتصاعد التضخم وتراجع قيمة الليرة.
تحالفات سياسية متقلبة وتحديات برلمانية
من أجل تمرير الدستور الجديد، يحتاج أردوغان إلى أغلبية من 360 صوتاً من أصل 600 في البرلمان التركي. حالياً، يملك حزب العدالة والتنمية 321 مقعداً، ويعوّل على دعم حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” المؤيد للأكراد، الذي يمتلك 56 مقعداً، ما يضعه على عتبة العدد المطلوب. غير أن التحالف مع حزب لطالما وصفه أردوغان بـ”الموالي للإرهاب” يثير تساؤلات عن مدى استقرار هذا التوجه، في ظل تحفظات المؤسسة الأمنية وتحفظات شريحة من ناخبيه القوميين.
في المقابل، يرى مؤيدو أردوغان أن إنهاء الصراع مع حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه خطوة إستراتيجية لتهيئة الداخل لتعديلات دستورية كبيرة، ولتقديم صورة “تركيا الخالية من الإرهاب” كمدخل لتعافي اقتصادي أوسع. لكن هذا التفاؤل يصطدم بواقع سياسي واجتماعي متشابك، يتطلب أكثر من مجرد تحالفات برلمانية ظرفية.
الرهانات الشخصية والمخاوف من الفراغ
في خضم هذا كله، لا يغيب البعد الشخصي عن المشهد. فالرئيس السبعيني، الذي يعاني من تدهور حالته الصحية وفقاً لتقارير متعددة، يبدو عازماً على تسريع خطاه نحو ترسيخ إرث سياسي يخلده. كثيرون يرون في الحراك الدستوري محاولة لتكريس نظام سياسي محوره شخص واحد، في بلد يعاني من أزمات مركبة.
وعلى الرغم من التحركات السياسية، تبقى الشكوك قائمة حول قدرة أردوغان على تمرير مشروعه بسلاسة، خاصة إذا ما واجه معارضة مدنية منظمة، أو موجة احتجاجات اجتماعية جديدة ترفع شعار العودة إلى القيم الجمهورية والحقوق الفردية.
تركيا على مفترق طرق
في نهاية المطاف، لا يتعلق الجدل الدستوري في تركيا فقط بالنصوص القانونية، بل بوجهة الدولة وتوازناتها وهويتها المستقبلية. ومهما يكن مصير المشروع الدستوري الجديد، فإن ما يجري اليوم يعكس أزمة حقيقية في بنية النظام السياسي التركي، وأزمة ثقة بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والمعارضة، وحتى بين تركيا والعالم.
ما سيحسم المسار في قادم الأشهر ليس فقط موازين القوى البرلمانية، بل المزاج الشعبي، وحيوية المعارضة، ومدى قدرة أردوغان على مقاومة ضغط الزمن والتاريخ، وهو ما يجعل من العامين القادمين اختباراً حقيقياً لمستقبل الجمهورية التركية نفسها.