الوضع في قطاع غزة، كما يتجلّى اليوم، لا يمكن فصله عن السياق السياسي الذي فُرض على الفلسطينيين منذ لحظة الانقسام الداخلي عام 2007، حين سيطرت حركة حماس على القطاع، معلنة عملياً انفصالها عن السلطة الفلسطينية. هذا التحوّل الجذري لم يكن فقط تعبيراً عن خلاف سياسي، بل شكّل بداية لواقع مركّب تتداخل فيه الأيديولوجيا، والمصالح الحزبية، والعوامل الإقليمية، وفي القلب منها العلاقة الوطيدة مع إيران، التي رعت حماس بوصفها ورقة ضغط في سياق “حروب الوكالة” مع إسرائيل.
إبادة ممنهجة
اليوم، بعد أكثر من 17 عاماً من حكم حماس للقطاع، ومع وصول الحرب إلى مرحلة إبادة ممنهجة، يتساءل كثيرون: لماذا لا تزال حماس تُصرّ على الاحتفاظ بالسلطة، رغم الكلفة الإنسانية الهائلة التي يدفعها المدنيون؟ هل باتت الحركة تضع حساباتها السياسية والأيديولوجية فوق اعتبارات البقاء الإنساني؟ الإجابة تكشف عن مفارقة مؤلمة؛ إذ يبدو أن المشروع السياسي لحماس أصبح أسير منطق “التحكم أو الانهيار”، ما يعني أن خيار التنازل عن السيطرة لم يعد مطروحاً داخل أدبيات الحركة، حتى في أحلك الظروف.
الواقع أن حماس، ومنذ سنوات، بنت نظام حكم قائم على شبكات موازية داخل المؤسسات، الأمنية والاجتماعية وحتى الاقتصادية، يربط ولاء الناس بالمساعدات والموارد الشحيحة التي تتحكم بها، مدعومة من جهات خارجية. وفي أوقات الأزمات، كما هو الحال اليوم، تتعمّق هذه الشبكات، وتصبح أداة لبسط الهيمنة لا للنجاة الجماعية. وحتى في ظل القصف والدمار، لا تتوانى بعض الجهات المنتمية للحركة، بحسب تقارير متعددة، عن فرض ضرائب أو بيع مساعدات إنسانية بأسعار باهظة، ما يُظهر كيف يمكن للحكم أن يتحول إلى عبء على الناس، بدل أن يكون وسيلة لحمايتهم.
هل لا تزال حماس مؤهلة لإدارة غزة؟
من ناحية أخرى، يبدو أن حماس استثمرت عسكرياً وسياسياً في عملية 7 أكتوبر دون تقدير دقيق لحجم الرد الإسرائيلي أو استيعاب اللحظة الإقليمية والدولية، ما أدى إلى اندلاع حرب غير متكافئة أسفرت عن تدمير القطاع بشكل شبه كامل. رغم ذلك، لم تظهر الحركة أي مؤشرات على استعدادها لإعادة تقييم جدوى المواجهة أو للتنازل عن سلطتها في سبيل اتفاق يوقف الكارثة الإنسانية. بدلاً من ذلك، ما زالت تتحدث بلغة “الصمود والمقاومة”، بينما الغزيّون يبحثون عن لقمة خبز أو سرير في مستشفى مدمر.
هذه الفجوة بين خطاب القيادة وواقع الناس على الأرض تطرح سؤالاً جوهرياً: هل لا تزال حماس مؤهلة لإدارة غزة؟ عندما يُقتل عناصر من الشرطة في وضح النهار، وتُنهب المساعدات في الشوارع، وتنهار البنية الأمنية، فإن ما يحدث لم يعد فقط نتيجة للقصف الإسرائيلي، بل انعكاس لانهيار منظومة الحكم الداخلية التي فقدت السيطرة حتى على أكثر مؤسساتها الأساسية.
ساحة صراع مفتوحة طويلة الأمد
الأكثر خطورة هو أن حماس، في محاولتها لتثبيت سلطتها، قد تكون بصدد تهيئة غزة لأن تكون ساحة صراع مفتوحة طويلة الأمد، بدلاً من البحث عن حلول سياسية توقف نزيف الدماء. فالمعادلة التي تحكمها الآن لم تعد تقوم على “التحرير مقابل المقاومة”، بل على “السلطة مقابل البقاء”، وهو منطق خطير لا يخدم أحداً سوى الاحتلال، الذي يستفيد من مشهد التشرذم والانقسام والفوضى، لتبرير حربه المفتوحة على المدنيين.
في النهاية، من الواضح أن استمرار حماس في التمسك بالحكم وسط هذا الدمار الهائل لا يمكن تبريره فقط بدوافع المقاومة أو المبدأ، بل هو انعكاس لرغبة حزبية في الحفاظ على النفوذ، حتى وإن كان الثمن آلاف الشهداء ودماراً غير مسبوق. هذا التمسك لا يخدم القضية الفلسطينية، بل يُدخلها في نفق مغلق يزيد من عزلة غزة، ويقوّي سردية الاحتلال بأن “الحل الوحيد هو الحسم بالقوة”، وهو ما يهدد بإلغاء كل فرص إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس موحّدة وشاملة.