بينما تتركّز أنظار العالم على المجازر المفتوحة في قطاع غزة، يمرّ ما يحدث في الضفة الغربية المحتلة من قمع يومي وممنهج بلا ضجيج كافٍ، رغم أن الأرقام المسجّلة خلال الأشهر الماضية تكشف عن تصعيد غير مسبوق في وتيرة العنف الإسرائيلي ضد السكان الفلسطينيين. تقرير جديد صادر عن المركز الفلسطيني للإعلام وثّق ملامح هذا التصعيد الذي بدأ منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأخذ منحىً تصعيديًا موازيًا للعدوان على غزة، وكأن الاحتلال يخوض حربًا مزدوجة على الشعب الفلسطيني في الجناحين الجغرافيين.
بحسب التقرير، قُتل نحو ألف فلسطيني في الضفة الغربية خلال تلك الفترة، وهو رقم يعكس مستوى غير مسبوق من استخدام القوة القاتلة في مواجهة مدنيين غالبًا ما يُستهدفون في بيوتهم أو خلال اقتحامات ليلية. إلى جانب الشهداء، تم توثيق 6989 إصابة، كثير منها بعيارات نارية مباشرة، ما يعكس طبيعة الاستهداف الميداني الذي يعتمده الجيش الإسرائيلي حتى في الحالات التي لا تستدعي إطلاق نار.
وتمضي آلة القمع في طريقها بلا هوادة، إذ رصد التقرير أكثر من 17,779 حالة اعتقال، بينها أطفال ونساء وشخصيات سياسية وأكاديمية، في مؤشر على أن سياسة الاعتقال لم تعد تستهدف فقط “النشطاء”، بل أصبحت أداة لتفريغ المجتمع من طاقاته ومن أي صوت قد يناهض الاحتلال. وترافق ذلك مع تهجير قسري طال 85 مواطنًا من الضفة الغربية والقدس، في مشهد يعيد إلى الأذهان سياسات الترحيل التي اتبعتها إسرائيل منذ نكبة عام 1948.
أما الاقتحامات، فبلغت 22,291 عملية، وغالبًا ما ترافقها عمليات تخريب ممنهج للممتلكات، حيث تم تدمير ما مجموعه 4,926 مبنى فلسطيني. ولا تقتصر هذه الاقتحامات على المداهمات الليلية فحسب، بل تشمل أيضًا اقتحام الجامعات، والمراكز الصحية، بل وحتى أماكن العبادة، ضمن سياسة كسر إرادة المجتمع الفلسطيني.
من جهة أخرى، فرضت قوات الاحتلال أكثر من 18,000 حاجز عسكري في مختلف أنحاء الضفة، في خطوة تستهدف شلّ الحياة اليومية، وقطع أوصال البلدات الفلسطينية عن بعضها البعض، فيما سجل التقرير 7,756 حالة إغلاق كامل أو جزئي، مما يفاقم من الأوضاع الاقتصادية والإنسانية، ويعزل المجتمعات الفلسطينية في جيوب متفرقة يصعب التنقل بينها.
ولم تسلم منازل الفلسطينيين من آلة الهدم الإسرائيلية، إذ رُصدت 1,156 حالة هدم، بعضها لمنازل مأهولة، ما يعني تشريد العائلات وتركها دون مأوى. وبالتوازي، نفذت قوات الاحتلال 5,643 عملية إطلاق نار ميدانية، ترافقت كثيرًا مع ما يُعرف بـ”الاعتقال الميداني”، حيث تم توثيق 1,375 حالة من هذا النوع، في انتهاك صريح لحقوق الإنسان.
لكن الأخطر في هذا المشهد ليس فقط ما تقوم به قوات الاحتلال النظامية، بل تزايد عنف المستوطنين الذي وصل إلى مستويات إرهابية تحت غطاء رسمي. التقرير وثّق 3,721 اعتداءً للمستوطنين، تراوحت بين إحراق محاصيل زراعية، والاعتداء الجسدي على المزارعين، والاقتحامات المسلحة للقرى، إضافة إلى 410 نشاطات استيطانية جديدة تعزز سياسة الضم الزاحف وتغيير الواقع الجغرافي والديمغرافي.
ما يجري في الضفة ليس فقط تضييقًا على السكان أو ضغطًا أمنيًا مؤقتًا، بل مشروع ممنهج لتفكيك النسيج المجتمعي، وتفريغ الأرض من أهلها، بالتوازي مع تهويد القدس وتوسيع المستوطنات، ما يجعل ما تشهده الضفة امتدادًا لحرب شاملة تُشن على الهوية والوجود الفلسطيني، حتى وإن غابت عنها أضواء الإعلام أو حسابات الدبلوماسية.
تجاهل المجتمع الدولي لما يجري في الضفة الغربية، في ظل انشغاله بمأساة غزة، يمنح إسرائيل هامشًا أكبر لارتكاب المزيد من الجرائم تحت غطاء “مكافحة الإرهاب”، في حين أن الواقع يظهر بوضوح أن الاحتلال هو من يمارس إرهاب الدولة، سواء عبر السلاح النظامي أو عبر ميلشيات المستوطنين التي باتت تشكّل ذراعًا موازية لجيش الاحتلال.
في خضم هذا السيل من الأرقام الدموية والانتهاكات، يبقى الفلسطيني في الضفة الغربية صامدًا في وجه آلة تطحنه يوميًا، لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه: إلى متى سيبقى الاحتلال فوق المحاسبة، بينما تتحول الأراضي الفلسطينية إلى ساحات مفتوحة للقمع الجماعي والتطهير البطيء؟