في مشهد عبثي يرسمه الذكاء الاصطناعي الصيني، تحولت الحرب التجارية بين بكين وواشنطن إلى ساحة معركة جديدة قوامها السخرية اللاذعة. فبينما يلوح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعودة “العصر الذهبي” للتصنيع الأمريكي عبر رسوم جمركية باهظة، ردت الصين بأسلوب مختلف: مقاطع فيديو ساخرة تصور “واقعًا” بديلاً لمصانع العم سام، واقعًا يشي بفشل ذريع قبل أن يبدأ.
تخيل مصنعًا أمريكيًا يعلو جداره لافتة باهتة كتب عليها “لنجعل أمريكا قوية مرة أخرى”، بينما يتثاءب العمال بملل، يتقاذفون شطائر البرجر العملاقة فوق خطوط إنتاج صدئة. أحدهم يكاد يغط في نوم عميق بجوار ماكينة خياطة مهترئة، بينما يرفع آخر شطيرة دهنية فوق أحذية رياضية بالكاد يتم تجميعها. هذا المشهد الكاريكاتوري، الذي انتشر كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية، ليس مجرد نكتة، بل هو رسالة سياسية باردة ومفادها: “تحلمون بماضٍ ولى، ونحن نصنع المستقبل… حتى سخريتكم نصنعها نحن”.
سخرية مريرة تكشف “واقعًا” أمريكيًا؟
فيديو اخر ينتجه الصينيون للسخرية من ترامب و امريكا بعد رسوم الجمارك
pic.twitter.com/QgKP2XNpjH— TRAVIS | تراڤس (@iirode0) April 11, 2025
ورغم أن الحرب التجارية ليست مادة للضحك بالنسبة لبكين، إلا أن هذه الفيديوهات الساخرة تكشف عن مفارقة أعمق. فهي تصور العمال الأمريكيين في حالة من الخمول والكسل، في تناقض صارخ مع صورة العامل الصيني الدؤوب والمنتج. هذه السخرية، وإن كانت مبالغًا فيها، تلامس وترًا حساسًا يتعلق بقدرة الولايات المتحدة الفعلية على إحياء قطاع تصنيعي تآكل على مدى عقود.
وعد ترامب.. وحقائق الاقتصاد:
وعد ترامب برفع الرسوم الجمركية لإعادة الوظائف الصناعية إلى أمريكا، معتقدًا أن ارتفاع أسعار المنتجات الصينية سيجبر الشركات والمستهلكين على التوجه نحو المنتجات المحلية. لكن الخبراء الاقتصاديين يرون أن النتيجة الأكثر هي ارتفاع أسعار السلع الرخيصة التي اعتاد عليها الأمريكيون، مما سيؤدي إلى انخفاض الطلب.
كما أن تكاليف الإنتاج المرتفعة داخل الولايات المتحدة تجعل من الصعب على الشركات المحلية منافسة الأسعار الصينية، حتى مع وجود الرسوم الجمركية. بل إن دفع هذه الرسوم قد يكون أقل تكلفة بالنسبة للمصنعين الأجانب من نقل مصانعهم إلى الأراضي الأمريكية.
الصين.. “مصنع العالم” لأسباب تتجاوز الرسوم:
صيني ضحكني يستعرض المنتجات الأمريكية في منزله التي سيخسرها بالحرب التجارية بينهم وبين الولايات المتحدة وقد حقق الفيديو الساخر أكثر من نصف مليون إعجاب بساعات قليلة من الأمريكيين في منصة تيك توك 🇨🇳 pic.twitter.com/FLT53enxHi
— عـبدالله الخريف (@AbdullahK5) April 13, 2025
تحولت الصين إلى قوة صناعية عظمى بفضل عوامل يصعب تغييرها بالرسوم الجمركية وحدها: وفرة الأيدي العاملة الرخيصة، وكفاءة سلاسل التوريد المتكاملة، وبيئة تنظيمية أقل صرامة. كما أن البنية التحتية الصناعية الهائلة التي بنتها الصين على مدى عقود لا يمكن تقليدها بسهولة.
ويشير الخبراء إلى أن تكلفة إنتاج العديد من السلع، مثل أجهزة الكمبيوتر المحمولة، أقل بكثير في الصين بسبب وجود معظم المكونات محليًا أو في دول آسيوية قريبة، مما يجعل شحنها داخل الصين أرخص بكثير من نقلها إلى الولايات المتحدة.
الفجوة الهائلة في الأيدي العاملة والمهارات:
العقبة الأكبر ليست في الأسعار وحدها، بل في الفارق الشاسع في حجم القوى العاملة بين البلدين. ففي حين يبلغ عدد العاملين في قطاع التصنيع الصيني أكثر من 100 مليون عامل، لا يتجاوز هذا الرقم في الولايات المتحدة 13 مليونًا. ورغم وجود ملايين العاطلين عن العمل في أمريكا، إلا أن العديد من الوظائف الصناعية تتطلب مهارات فنية وهندسية تفتقر إليها السوق الأمريكية.
وحتى مع إدراك معظم الأمريكيين لأهمية زيادة الوظائف الصناعية، فإن نسبة قليلة منهم فقط تبدي رغبة فعلية في العمل في هذه الوظائف. كما أن سياسات الهجرة التي تتبناها إدارة ترامب، والتي تحد من أعداد الطلاب الدوليين، قد تؤدي إلى تفاقم “فجوة الكفاءات الهندسية” الضرورية لدعم الصناعات الأمريكية.
من الحرب التجارية إلى حرب “الميمات”:
يرى الخبراء أن انتشار هذه الصور الساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية هو رد فعل طبيعي على تصاعد التوترات التجارية. فقد بدأ المستخدمون الصينيون في التساؤل عن المنتجات الأمريكية التي سترتفع أسعارها بعد فرض الصين لرسومها الجمركية، وسرعان ما تحول النقاش إلى مفارقة حول ندرة السلع اليومية المصنوعة فعليًا في أمريكا.
وباستثناء المنتجات التكنولوجية الفاخرة والطائرات والأدوية، لم يجد المستخدمون الصينيون أمثلة كثيرة لمنتجات أمريكية الصنع. وهذا يسلط الضوء على أن الميزة التنافسية الحقيقية لأمريكا تكمن في قطاع الخدمات، وخاصة في وادي السيليكون، وليس في المصانع.
رسائل ذكية للمستهلك الأمريكي:
لم يتوقف الأمر عند السخرية، بل لجأ بعض العاملين في قطاع التصدير الصيني إلى منصات التواصل الاجتماعي لإظهار الهامش الربحي الكبير الذي تضعه العلامات التجارية الغربية على المنتجات الصينية الصنع، ودعوا المستهلكين الأمريكيين إلى الشراء مباشرة منهم.
ورغم أن بعض هذه المحاولات قد تكون احتيالية، إلا أنها تعكس رغبة الصين في تجاوز الوسطاء والوصول مباشرة إلى المستهلكين، مستغلة قدرتها الهائلة على الإنتاج بتكاليف منخفضة.
إجماع صيني على دعم “الحرب التجارية”:
يشير تحليل مزاج مستخدمي الإنترنت الصينيين إلى وجود دعم واسع النطاق لموقف الحكومة الصينية في الحرب التجارية مع واشنطن. ويرى الكثيرون أن الرسوم الانتقامية الصينية هي “قرار حكيم”، مع قلة فقط ترى ضرورة الرضوخ للولايات المتحدة.
وقد تعززت هذه الصورة الوطنية برسوم كاريكاتورية وصور ساخرة تصور الصين كحامية لبقية العالم من الهيمنة الأمريكية، أو كالدولة الوحيدة القادرة على مواجهة واشنطن.
حرب إعلامية عابرة للحدود:
المثير للدهشة أن هذه الموجة الإعلامية الصينية لم تقتصر على المنصات المحلية المحظورة، بل انتشرت مقاطع الفيديو الساخرة على منصات عالمية مثل “إكس” و”تيك توك” عبر شبكات VPN، محققة ملايين المشاهدات والإعجابات.
ويرى الخبراء أن هذه الموجة الإعلامية، بغض النظر عن مصدرها الحقيقي، تمثل “فوزًا كبيرًا للصين”. فالصينيون يدركون حجم الانقسام داخل المجتمع الأمريكي، وفي ظل هذا الاستقطاب، لم يعد الكثير من الأمريكيين يهتمون بمصدر هذه “الميمات” طالما أنها تخدم رؤيتهم السياسية، مما يجعل الرسائل الصينية فعالة للغاية في هذه المرحلة من الصراع.