ما يجري في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر 2023 ليس مجرد “حملات أمنية” إسرائيلية كما تصفها وسائل الإعلام العبرية، بل هو عدوان شامل يستهدف البنية الاجتماعية والإنسانية والسياسية للشعب الفلسطيني، عبر سلاح الاعتقالات الجماعية، وخاصة في صفوف الأطفال، والنساء، والأسرى المحررين، في تجاوز صريح لكافة الأعراف الإنسانية والقوانين الدولية.
في شهر أبريل وحده، تم تسجيل 530 حالة اعتقال في الضفة الغربية، بينها 60 طفلاً و18 امرأة، وسط استمرار نهج الاحتلال القائم على التصعيد المنهجي والانتقامي، وبموازاة حرب إبادة حقيقية تُرتكب يومياً في قطاع غزة.
وسيلة قمع ممنهجة لا أداة أمنية
إسرائيل تستخدم الاعتقال كأداة سياسية وأمنية مزدوجة، لا لملاحقة أعمال بعينها، بل لضرب النسيج المجتمعي الفلسطيني وترهيب السكان في الضفة. لا تفرّق قوات الاحتلال بين طفل أو امرأة أو مسن، إذ تُنفذ الاعتقالات بأسلوب عسكري عنيف يشمل تدمير المنازل، الاعتداء الجسدي، والتحقيق الميداني، بل واستخدام المعتقلين كدروع بشرية، كما ورد في تقارير مؤسسات حقوقية موثقة.
عمليات الاعتقال تتركز بشكل خاص في جنين وطولكرم، وهي المناطق التي شهدت مقاومة مسلحة متصاعدة، مما يشير إلى أن الاعتقالات لا تأتي فقط لأسباب استخباراتية، بل في إطار سياسة العقاب الجماعي.
انتهاك صارخ للقانون الدولي
واحدة من أكثر الممارسات خطورة هي إعادة اعتقال الأسرى المحررين، الذين أُفرج عنهم إما ضمن صفقات تبادل أو بعد انتهاء محكومياتهم. هذا السلوك يُعد خرقاً واضحاً لاتفاقيات دولية، أهمها اتفاقية جنيف الرابعة، ويقوض أي أمل في مسارات تفاوضية مستقبلية. إعادة اعتقال المحررين تُستخدم كأداة انتقامية، ووسيلة لإفشال أي مشروع وطني فلسطيني يستند إلى المصالحة والوحدة، كما تُرسل رسالة مفادها أن “الحرية مؤقتة”، وأن يد الاحتلال ستظل ممدودة حتى بعد الإفراج.
وفي بعض الحالات، يكون الهدف من إعادة الاعتقال هو التغطية على فشل أمني، أو مجرد الانتقام من النشطاء السياسيين والاجتماعيين، أو الضغط على فصائل المقاومة في غزة من خلال أسرى الضفة.
تدمير الجيل القادم
الانتهاك الأكثر فظاعة، والذي يصنف ضمن جرائم الحرب، هو اعتقال الأطفال الفلسطينيين، الذين بلغ عددهم حتى مطلع مايو أكثر من 400 طفل، بينهم أكثر من 100 معتقل إداري، أي معتقلون دون تهم أو محاكمات.
الهدف من اعتقال الأطفال واضح ومباشر: كسر إرادة الجيل الجديد، وتفكيك أي وعي وطني قبل أن يتشكل. في مراكز التحقيق الإسرائيلية، يتعرض الأطفال للتعذيب الجسدي والنفسي، والحرمان من التعليم والرعاية، بل يُجبرون أحياناً على التوقيع على اعترافات تحت التهديد.
باعتقال الأطفال، تعمل إسرائيل على شيطنة الفلسطيني منذ صغره، وإدخاله مبكراً في دائرة الخوف والشك والانكسار، وهي سياسة ممنهجة لقطع الطريق أمام أي جيل قد يحمل راية المقاومة أو الوعي السياسي.
غطاء قانوني لاحتجاز تعسفي
بلغ عدد المعتقلين الإداريين رقماً قياسياً لم يُسجل من قبل، بواقع 3577 معتقلاً حتى بداية مايو، وهو عدد يفوق حتى أعداد المحكومين والموقوفين بتهم. النظام الإداري الإسرائيلي يعطي الحق لجيش الاحتلال باعتقال أي فلسطيني دون توجيه تهمة، استناداً لما يسمى “الملف السري”، وهو نموذج واضح لدولة بوليسية تعمل خارج كل إطار قانوني دولي.
الاعتقال الإداري يستخدم اليوم كأداة تحكم شامل، يُمارس كوسيلة ترويع، وكأداة لشلّ المجتمع الفلسطيني. وبغياب الضغط الدولي الجاد، فإن إسرائيل تُمارس هذه الانتهاكات بثقة كاملة بعدم المحاسبة.
ماذا تريد إسرائيل من كل ذلك؟
الهدف النهائي من هذه السياسة ليس فقط الاعتقال، بل ترسيخ واقع من الاحتلال غير المكلف، والسيطرة المطلقة دون مقاومة. عبر تحويل الضفة إلى سجن كبير، وخنق غزة بالمجازر والتجويع، تُحاول إسرائيل خلق واقع جديد عنوانه: لا دولة فلسطينية، ولا مقاومة، ولا حقوق إنسان.
كما تسعى لتصفية البنية التنظيمية والسياسية الفلسطينية من جذورها، عبر استنزاف النخب، وكسر الروح الوطنية، وإفراغ الساحة من أي قيادة مستقبلية، معتمدة على دعم غربي، وصمت دولي، وضعف داخلي فلسطيني.
الاعتقالات في الضفة ليست أرقاماً تُسجل في تقارير، بل هي حكايات عن معاناة شعب يُلاحق في رزقه، وطفولته، ومستقبله. استمرار هذا النهج من الاعتقال الجماعي، وإعادة اعتقال المحررين، واعتقال الأطفال، يؤسس لمرحلة جديدة من التطهير البطيء الذي يهدف إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني من الداخل.