في صباحٍ مثقلٍ بالخوف والانتظار، كان الطفل أحمد، ابن الاثني عشر عامًا، يقف خلف نافذة منزله المهتز في مخيم نور شمس بطولكرم، يراقب الجنود الإسرائيليين وهم يقتحمون حارة العيادة بصخبٍ لا يشبه الصباحات العادية. لم يكن يعرف بالضبط ماذا يعني أن “يهدموا البيوت”، لكنه كان يسمع الكبار يتهامسون بأن الدور قد يأتي عليهم في أي لحظة. دقائق فقط فصلت بين القلق والتجربة.
صرخة طفل حزنا على والده
بصراخ مدوٍ، اقتحمت قوات الاحتلال منزلهم، جرّوا والده بعنف من بين أطفاله، ولم يسمحوا لوالدته حتى أن تودّعه أو تفهم التهمة. كان الأب قد أمضى ليلته السابقة في مساعدة الجيران على إصلاح أنبوب ماء تهدّمه القصف الأخير. لم يكن يحمل سلاحًا، ولا يعرف في السياسة شيئًا، لكنه خرج مكبّل اليدين، وصوت بكاء أمه يشقّ جدران الحيّ، فيما يصرخ أحمد: “بابا… لا تروح”.
لم تمضِ ساعة حتى بدأ الجرافات تهدر بالقرب. اقترب أحمد من النافذة ذاتها، لكن المشهد هذه المرة كان أكثر قسوة؛ بيت جده، الذي كان يأويه حين يضيق بهم الحال، يُهدم أمام عينيه. تحوّلت غرف الطفولة إلى ركام، والذكريات إلى غبار، والأثاث البسيط إلى خشب مهشم. لم تنفع توسلات العائلة، ولا صراخ الجيران، ولا حتى تدخل كبار السن، فالهدم كان “أمرًا عسكريًا”، كما قال الضابط ببرود.
مأساة الأمهات
في رام الله، لم تكن “أم فراس” تعلم أن طرق الباب في الفجر يعني فقدان ابنها. اقتحموا منزلها وهم يصيحون بأوامر لم تفهمها، قلبوا الخزائن، خربوا ما تبقى من أمانٍ هش، ثم أخذوا فراس، ابنها البكر، دون أن يخبروها إلى أين. حين حاولت اللحاق بهم سقطت أرضًا، بينما كان شقيق فراس الأصغر يصرخ في وجه الجنود: “ليش؟ إحنا ما عملنا شيء”. لكنها لم تجد جوابًا، بل قفل الجنود باب المنزل خلفهم، وتركوا خلفهم أمًا تبكي، وبيتًا منفيًا من الدفء.
أما في بيت لقيا، حيث كانت الحاجة “نُهى” تعتني بغرفتها الزراعية الصغيرة، التي كانت تبنيها بيديها من الطوب والخشب، ليكون لها ملجأ تبكي فيه وتزرع فيه بعض الأمل، فقد شاهدت حلمها يُسحق بجنازير الجرافة. وقفت بعجز، تراقب الأرض التي كانت تزرعها، تُحرث هذه المرة لا للزراعة، بل للخراب. “ليش يا بني؟ هاي الغرفة بتسوى عليكم؟”، سألت الجندي الشاب، لكنه نظر إليها بجمود، ومضى دون أن يردّ.
أوجاع الضفة
وفي سلفيت، وسط الاختناق المروري الذي فرضه الاحتلال، كان “علاء” يحاول إيصال ابنته المريضة إلى المستشفى. تنقل بها بين الحواجز، وكل حاجز يمنعه، أو يفتشها، أو يأمره بالرجوع. حملها على كتفيه، عبر طرق ترابية حتى تعب، وكان يقول لنفسه: “أنا مش رايح مشوار… أنا بس بدي أحمي بنتي”. لم يصل إلى وجهته في الوقت المناسب، وتأخر العلاج، وزادت معاناة الطفلة التي لم تكن تفهم لماذا الطريق إلى الحياة محاصر.
تتكاثر القصص في الضفة، وتتشابه الأوجاع. لا فرق بين بيت يُهدم في طولكرم، وطفل يُعتقل في الخليل، وفتى يُنقل مقيدًا من قلقيلية. الاحتلال لا يستثني بيتًا ولا قلبًا ولا ذاكرة، يحاصر الحجر والبشر، يعتقل الأب، ويهدم الجدار، ويغتال في النفوس أمنها الهش. لكن رغم كل شيء، ما زال أحمد يكتب اسمه على جدار البيت المهدوم، ويقول: “هنا كنا… وهنا سنعود”.