في مشهد صادم يختزل حجم الانحدار الأمني والأخلاقي الذي تعيشه المناطق الخاضعة لنفوذ خليفة حفتر في شرق ليبيا، نشر الصحفي البريطاني إيان بيلهام تيرنر مقطع فيديو مسرّباً يُظهر النائب في مجلس النواب الليبي، إبراهيم الدرسي، في أول ظهور له منذ اختطافه في السادس عشر من مايو 2024. المشهد، الذي وُصف على نطاق واسع بالمهين والوحشي، يفضح ممارسات الأجهزة الأمنية التابعة لأبناء حفتر ويكشف عن معاملة لا تمت بصلة لأي منظومة قانونية أو أخلاقية، حتى بالحدود الدنيا.
المقطع، الذي يعود تاريخه إلى الثاني والعشرين من مايو بحسب تيرنر، يُظهر الدرسي في وضع مزرٍ: مقيّد اليدين والرجلين، بسلسلة تُلفّ حول عنقه، وعلى جسده علامات واضحة للإعياء والإيذاء البدني. بدا النائب الذي لطالما ارتبط اسمه بعملية “الكرامة” في حالة يرثى لها، مرتديًا ملابس داخلية فقط، وأمام الكاميرا وجّه نداء استغاثة مباشراً إلى خليفة حفتر وابنه صدام، راجيًا الإفراج عنه ومؤكداً ولاءه الثابت لهما، في محاولة واضحة يائسة للنجاة بحياته، أو على الأقل، لتخفيف معاناته داخل الزنزانة السرية التي يُحتجز فيها.
ورغم أن الدرسي لم يحدد صراحة التهم التي أدت إلى اختطافه، إلا أنه حرص على نفيها بالكامل، مكتفيًا بالتأكيد على أنه “جزء من الكرامة ولن يخذل قائدها”، في إشارة إلى حفتر. هذه العبارات، وإن بدت في ظاهرها سياسية، فإنها تكشف في باطنها حجم الترهيب والخوف الذي بات يسيطر حتى على أولئك المحسوبين على منظومة حفتر السياسية والعسكرية، ما يعني أن الانقسامات الداخلية باتت تستهدف أقرب الموالين، وأن منطق التصفيات لم يعد يستثني أحداً.
التحقيق الذي نشره الصحفي البريطاني لم يقتصر على عرض المشهد، بل قدّم معلومات تُعزز من الاتهامات الموجهة إلى صدام حفتر، نجل المشير والمسيطر فعليًا على الجهاز الأمني الموازي، حيث أشار تيرنر إلى أن السجن الذي يُحتجز فيه الدرسي يقع تحت إشراف علي المشاي، الذراع الأمنية اليمنى لصدام، وهو من يُعرف داخل أوساط شرق ليبيا بأنه مهندس الاعتقالات والتصفيات التي تطال الخصوم وحتى الحلفاء في حال أظهروا تباينًا في الرأي أو الطموح.
ووفق التقرير ذاته، فإن قائمة المتورطين في عملية اختطاف وتعذيب النائب تضم أسماء من الحلقة الضيقة داخل جهاز صدام الأمني، مثل إبراهيم القذافي، أحمد العجيلي، رمضان بوكر، علي الجلالي، ضو الصويعي، ووَنيس العبد، وهي أسماء معروفة بسوابقها في الإخفاء القسري والانتهاكات الحقوقية.
ورغم أن الفيديو أحدث هزّة كبيرة على مستوى الرأي العام، فإن المؤسسات الرسمية في شرق ليبيا لم تُبدِ أي موقف واضح أو إنساني تجاه الحادثة. مجلس النواب، الذي يُفترض أنه يمثّل الجهة التشريعية والضامنة لحقوق أعضائه، اختار الصمت المريب، مكتفيًا بتعليق جلسته إلى اليوم التالي دون الإشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى الفيديو المسرّب أو مصير أحد أعضائه المنتخبين.
في المقابل، خرج جهاز الأمن الداخلي في بنغازي ليشكك في مصداقية الفيديو، مدّعيًا أن المشاهد “مفبركة بالكامل” باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ردٌّ لا يبدو كافيًا أو مقنعًا أمام توثيق مرئي يحمل دلالات واضحة على أصالة اللقطات، لا سيما مع غياب أي دليل مضاد أو تحقيق محايد.
الردود الحقوقية كانت أكثر وضوحًا وإنسانية، حيث أصدرت حكومة الوحدة الوطنية بيانًا أدانت فيه ما سمّته “الاحتجاز المهين وغير الإنساني” للنائب الدرسي، واعتبرت ما جرى انتهاكًا للكرامة البشرية وتكريسًا لممارسات تنتمي إلى الأنظمة الشمولية القمعية، مؤكدة أن ما جرى يتجاوز مجرد نزاع سياسي ليطال القيم الأخلاقية والمجتمعية.
من جهتها، أعربت منظمة رصد الجرائم في ليبيا عن بالغ قلقها إزاء المقاطع المسرّبة، مشيرة إلى أنها ترقى إلى مستوى “التعذيب”، ومؤكدة استمرار جريمة الإخفاء القسري بحق الدرسي، ما يضع الجهات المتورطة تحت طائلة الملاحقة القانونية المحلية والدولية في حال توفرت إرادة العدالة.
وفي موقف لافت، دانت الرابطة الليبية لحملة القرآن الكريم وقرّائه الانتهاكات التي طالت النائب، مشددة على أن الدرسي ليس مجرد شخصية سياسية، بل هو قارئ ومُجاز دوليًا في القرآن الكريم، حصل على المركز الثالث في مسابقة الملك عبد العزيز الدولية عام 1994، وهو إمام معروف في مدينة بنغازي. وذهبت الرابطة إلى وصف الاعتداء عليه بأنه “اعتداء على مكانة القرآن وحملته”، معتبرة أن الإهانة التي تعرض لها لا تمس فردًا، بل تمس شريحة دينية رمزية في المجتمع الليبي.
ما كشفه هذا الفيديو، وإن بدا حادثة فردية، فهو في الواقع انعكاس لمنظومة أمنية باتت تستبيح القيم والكرامات، وتُدار بمزاجية أفراد يمتلكون السلاح والقرار بعيدًا عن أي رقابة قانونية أو دستورية. إن مصير إبراهيم الدرسي، سواء نجا من محنته أو انتهى بها، بات بمثابة اختبار حقيقي لقدرة المؤسسات الليبية على الوقوف في وجه عسكرة الدولة، وعلى المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية أن تدرك أن الصمت عن مثل هذه الانتهاكات هو مساهمة مباشرة في استمرارها، وربما في توسّعها.