التحركات الإسرائيلية الأخيرة في قطاع غزة، وتحديداً فيما يتعلق بتسليح ميليشيات محلية بديلة، تكشف عن تحول استراتيجي بالغ الدقة والخطورة، يشير إلى رغبة إسرائيل في إعادة صياغة المشهد السياسي والعسكري في القطاع من الداخل، دون الحاجة إلى التورط في مواجهات ميدانية مباشرة طويلة الأمد.
تحييد حماس
هذا التوجه الجديد يبدو وكأنه محاولة لإعادة إنتاج تجربة “الوكيل المحلي” أو “القوة بالنيابة”، حيث تسعى إسرائيل إلى استبدال حالة العداء المفتوح مع “حماس” بمعادلة جديدة يتم فيها تحييد الحركة أو على الأقل تقليص نفوذها، من خلال زرع كيانات مسلّحة محلية تعمل لخدمة الأجندة الإسرائيلية. الإقرار الرسمي من قبل مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية، بل ومن قبل نتنياهو نفسه، بتسليح “عشائر بدوية” في رفح، يوضح أن الأمر لم يعد مجرد تكهنات أو تسريبات، بل بات جزءاً من سياسة مرسومة.
المثير هنا هو التوقيت والسياق. فبعد أكثر من 20 شهراً من الحرب التي لم تحقّق أهدافها المعلنة – وعلى رأسها القضاء على “حماس” – يبدو أن إسرائيل بدأت تدرك أن الحل العسكري المباشر مكلف للغاية سياسياً وعسكرياً وبشرياً. وهنا تظهر فكرة تسليح مجموعات محلية كخيار بديل: منخفض الكلفة، وغير مباشر، ويمكن التملّص من تبعاته السياسية بسهولة في حال فشله.
تعقيد المشهد في غزة
من وجهة النظر الإسرائيلية، نجاح التجربة في رفح – بحسب ما ذكرت “القناة 12” – أعطى دفعة قوية نحو تعميم النموذج على مناطق أخرى من قطاع غزة. وهنا يظهر ما يمكن تسميته بـ”التحايل الأمني”، حيث تسعى إسرائيل لتأسيس سلطة أمر واقع تتكوّن من ميليشيات محلية يُمكن أن تعمل كحاجز أمام “حماس”، وربما حتى كبديل عنها لاحقاً، في حال تطورت الأمور بطريقة مناسبة.
لكن هذه الخطة لا تخلو من مخاطر عميقة. أولاً، تسليح جماعات خارج سيطرة دولة معترف بها دائماً ما يُفضي إلى فوضى لا يمكن احتواؤها بسهولة. ثانياً، هذا النوع من السياسة قد يعزز الانقسام الداخلي الفلسطيني، ما يهدد بتفكك النسيج الاجتماعي أكثر مما هو عليه الآن، ويخلق كيانات موازية قد تدخل لاحقاً في صراعات جانبية تزيد من تعقيد المشهد في غزة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا السيناريو يواجه تحديات أخلاقية وقانونية، إذ يُعد تسليح ميليشيات داخل أرض محتلة انتهاكاً للقوانين الدولية، ويعرض إسرائيل لمزيد من الانتقادات الدولية التي بدأت تتكثف مؤخراً بسبب طول أمد الحرب واستخدام القوة المفرطة.
تفكيك حماس
يبدو أن إسرائيل تبحث عن طريقة للتخلص من عبء غزة دون مغادرتها فعلياً. عبر خلق سلطة محلية “عميلة” أو متحالفة معها أمنياً، تسعى لتفكيك حماس من الداخل بدلاً من هزيمتها من الخارج. غير أن هذا الرهان محفوف بالمخاطر، وقد يؤدي إلى إعادة إنتاج سيناريوهات الفوضى التي شهدناها في دول أخرى كالعراق وسوريا عندما تم تسليح جماعات محلية على حساب الدولة.
هذا التحول لا يُعبّر فقط عن تراجع في ثقة إسرائيل بقدرتها على الحسم العسكري، بل يكشف أيضاً عن أزمة استراتيجية تبحث عن مخرج مهما كان مكلفاً.. حتى وإن كان عبر ميليشيات قد تنقلب لاحقاً على من سلّحها.