بنت إسرائيل أجزاء كبيرة من قوتها العسكرية والسياسية والإقليمية على قدراتها في التجسس، وتنفيذ العمليات السرية، والاغتيالات الممنهجة، والتلاعب بخيوط الصراعات في الشرق الأوسط. ومن بين أبرز رموز هذا التاريخ الاستخباراتي، يبرز اسم إيلي كوهين، الجاسوس الإسرائيلي الذي تمكّن من التغلغل في أوساط الحكم السوري في ستينيات القرن الماضي، قبل أن يُكتشف أمره ويُعدم في دمشق عام 1965.
التجسس كأداة استراتيجية للدولة العبرية
منذ نشأتها، اعتمدت إسرائيل على الاستخبارات كجزء أساسي من عقيدتها الأمنية. فقد كانت الدولة محاطة بدولٍ تعتبرها عدوة، وتفتقر للعمق الجغرافي الاستراتيجي، ما جعل المعلومات المسبقة – عبر الجواسيس أو التنصت أو الحرب السيبرانية – مفتاحاً للنجاة والتفوق.
جهاز الموساد، أحد أعمدة هذا النظام، نفذ عشرات العمليات خارج الحدود، بما في ذلك اغتيالات طالت شخصيات فلسطينية ولبنانية وإيرانية، كما نفذ عمليات تهريب معلومات، تدمير منشآت، وخطف مسؤولين من بلدان أخرى. لكنه، أيضاً، أداة سياسية ناعمة تُستخدم في بناء سرديات “الهيمنة الاستخباراتية”، و”الأسطورة الأمنية” التي تسعى إسرائيل لتصديرها عن نفسها.
لماذا الإعلان عن أرشيف إيلي كوهين؟
في هذا السياق، جاء إعلان مكتب نتنياهو عن استعادة 2500 وثيقة وصورة ومقتنيات شخصية تعود للعميل إيلي كوهين من الأراضي السورية، عبر “عملية سرية ومعقدة”، دون الكشف عن أي تفاصيل أخرى. توقيت الإعلان لا يقل أهمية عن العملية نفسها، بل هو في حد ذاته رسالة سياسية وأمنية مزدوجة.
فعلى المستوى الرمزي، يُعاد كوهين إلى الواجهة في لحظة تعاني فيها إسرائيل من أزمة داخلية عميقة، ومأزق خارجي متصاعد. فعلى الأرض، تتخبط إسرائيل في حرب طويلة الأمد في غزة، لم تحقق أيًّا من أهدافها المعلنة، وتُتهم بارتكاب جرائم إبادة، وتواجه عزلة دبلوماسية متزايدة. وفي الداخل، يعيش المجتمع الإسرائيلي انقساماً حاداً، وسط انتقادات متصاعدة لحكومة نتنياهو وسياساته التي أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار السياسي والاقتصادي.
لذلك، إعادة فتح ملف إيلي كوهين الآن ليس مصادفة، بل هو محاولة دعائية لاستنهاض الروح القومية الإسرائيلية، ولتذكير الرأي العام المحلي بـ”مجد” الموساد وقدرته على تنفيذ عمليات سرية نوعية حتى داخل دول معادية مثل سوريا.
كما أن التلميح إلى تنفيذ العملية بالتعاون مع “شريك استراتيجي” مجهول، يفتح باب التكهنات حول حدوث اختراق جديد في أحد أجنحة النظام السوري أو جهات استخباراتية إقليمية، ويُراد له أن يُفهم على أنه سقوط رمزي جديد للدولة السورية، خاصة بعد سنوات الحرب الطويلة والانقسام الداخلي.
نقد لاذع لسياسات الاحتلال
هذا الإعلان ليس إلا وجهًا آخر لسياسات الاستعلاء الصهيونية، التي تتعامل مع جيرانها كحقل مفتوح للتجارب والاختراقات، متجاهلة أي احترام للسيادة أو القانون الدولي. فأن تعلن إسرائيل عن تنفيذ عملية استخباراتية في دولة أخرى، دون أي محاسبة أو رادع دولي، هو تكرار لصيغة الاحتلال ذاتها: فعل عدواني يلبس عباءة “الذكاء والفخر الوطني”.
والأخطر من ذلك، أن إسرائيل تحاول دومًا إخفاء جرائمها تحت عباءة العمليات الأمنية. فبينما تُنشر صور أرشيف كوهين على أنها “انتصار استخباراتي”، تُخفى مئات آلاف الوثائق التي توثق جرائمها بحق الفلسطينيين، من مجازر النكبة، إلى هدم القرى، والاعتقالات الجماعية، والتطهير العرقي.
إسرائيل تمارس الفصل العنصري
ومثلما استعرضت إسرائيل عظام كوهين في الماضي، وتستعرض مقتنياته اليوم، فهي لا تتوانى عن تجريم الآخرين وتجريم الضحية، بينما تبرّئ نفسها بكل وقاحة أمام أعين العالم. وفي المقابل، يواصل المجتمع الدولي، أو ما تبقى منه، صمته وتواطؤه، فيما يُقتل الأطفال في غزة وتُمحى المدن من الخريطة، بلا أي عار أو محاسبة.
عملية استعادة مقتنيات إيلي كوهين، سواء كانت حقيقية أو استُخرجت من أرشيف قديم، ليست سوى استعراض سياسي مغلّف بالأمنيات الاستخباراتية، هدفه تحويل الأنظار عن أزمة إسرائيل العميقة، وإعادة بناء صورة بطولية متهالكة لأجهزة الاحتلال. لكن لا الموساد، ولا نتنياهو، ولا استعراضاتهم، قادرون على التغطية على الحقيقة التي باتت واضحة للجميع: إسرائيل اليوم دولة تمارس الفصل العنصري، تغرق في مستنقع عنفها، وتفقد احترام العالم بقدر ما تفقد ضحاياها في غزة كل يوم.