تُعبّر التصريحات الإسرائيلية الأخيرة بشأن رفض استقبال وزراء خارجية عرب في الضفة الغربية، والتأكيد على المضي قدماً في مشروع “الدولة اليهودية” وبناء 22 مستوطنة جديدة، عن تحوّل صريح في الخطاب السياسي الإسرائيلي تجاه حل الدولتين، وتجاه الحضور العربي في المشهد الفلسطيني. فهذه التصريحات لا تأتي بمعزل عن السياق السياسي الإقليمي والدولي، بل تعكس استراتيجية إسرائيلية مبيتة لتكريس واقع جديد على الأرض، يعمّق الاحتلال، ويقطع الطريق على أي مشروع دولي يُفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
إفشال فكرة الدولة الفلسطينية
رفض التعاون مع زيارة الوفود العربية للضفة الغربية يرسل رسالة مزدوجة: أولاً، أن إسرائيل لم تعد تكترث بالموقف العربي، أياً كانت طبيعته أو رمزيته، حتى لو كان داعماً للسلطة الفلسطينية بشكل هادئ. وثانياً، أن تل أبيب ترى في أي محاولة لإحياء فكرة الدولة الفلسطينية تهديداً مباشراً لها، حتى لو جاءت عبر زيارة دبلوماسية رمزية أو اجتماع سياسي غير ملزم. استخدام مصطلحات مثل “اجتماع استفزازي” يبرز مدى التحسس الإسرائيلي من أي تحرك يعيد فتح النقاش حول حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، ويكشف عن موقف عدائي واضح تجاه أي مبادرة عربية في هذا الاتجاه.
وفي مقابل هذا الرفض، تأتي تصريحات وزير الدفاع يسرائيل كاتس لتضع النقاط على الحروف: إسرائيل لا تكتفي بإفشال فكرة الدولة الفلسطينية، بل تعمل على بناء “الدولة اليهودية الإسرائيلية” على الأرض الفلسطينية نفسها. وهذا لا يُعدّ مجرد خطاب سياسي داخلي موجه للناخب الإسرائيلي، بل هو إعلان رسمي عن استمرار مشروع التهويد وتوسيع الاستيطان كجزء لا يتجزأ من العقيدة السياسية للحكومة الحالية، التي يهيمن عليها اليمين القومي والديني.
أزمة ثقة عميقة بين إسرائيل والدول العربية
إقامة 22 مستوطنة جديدة ليست مجرد أرقام أو وحدات سكنية، بل هي عملية سياسية ممنهجة تهدف إلى تفكيك أي تواصل جغرافي بين المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية، وجعل إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة أمراً مستحيلاً من الناحية الواقعية. وهذا يأتي في وقت يترنح فيه موقف السلطة الفلسطينية، وتعاني فيه حركات المقاومة من ضغوط داخلية وخارجية بسبب الحرب الدائرة في غزة، ما يجعل من اللحظة الحالية فرصة مثالية – من وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية – لفرض حقائق جديدة على الأرض.
في الوقت نفسه، تكشف هذه التصريحات عن أزمة ثقة عميقة بين إسرائيل والدول العربية، حتى تلك التي وقعت اتفاقيات سلام أو تطبيع معها. فالتعامل مع زيارة دبلوماسية عربية باعتبارها “عمل عدائي” يعني أن إسرائيل لا ترى في هذه الدول شركاء سياسيين حقيقيين، بل أطرافاً يجب تحجيم نفوذها وضبط تحركاتها، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية. وهو ما قد يُهدد مستقبل العلاقات الإسرائيلية-العربية، ويضع علامات استفهام حول جدوى المسار التطبيعي في ظل تعنت الحكومة الإسرائيلية.
إغلاق ملف الدولة الفلسطينية
من جهة أخرى، فإن هذا الموقف الإسرائيلي يعمّق عزلة تل أبيب على الساحة الدولية، في وقت تتزايد فيه الانتقادات العالمية لسياستها في الأراضي المحتلة، وخاصة بعد أحداث غزة. فرفضها لزيارة عربية رسمية، في وقت تتحدث فيه عن السلام والانفتاح، يكشف تناقضاً جوهرياً في سلوكها السياسي، ويدعم الرواية الفلسطينية التي تتهم إسرائيل بالتهرب من أي استحقاق سياسي حقيقي.
ما يجري هو محاولة حاسمة من الحكومة الإسرائيلية الحالية لإغلاق ملف الدولة الفلسطينية نهائياً، عبر خطوات استيطانية مكثفة، ورفض أي تحرك سياسي خارجي يدعو إلى إعادة إحيائه، حتى لو جاء من أطراف عربية. وهو ما ينذر بتصعيد قادم، ليس فقط على الأرض، بل أيضاً في العلاقات الإقليمية والدولية لإسرائيل، التي قد تجد نفسها في مواجهة دبلوماسية جديدة، قد لا تكون قنابلها من البارود، بل من العزلة السياسية.