بعد مرور ستّة أشهر على حرب الإبادة الجماعية ضد شعبنا الفلسطيني بقطاع غزّة، وسقوط أكثر من مئة ألف فلسطيني بين قتيل وجريح، نلاحظ أن هناك أزمة في الخطاب الإسرائيلي من جهة ومن جهة أخرى في الخطاب الحمساوي، فهناك تسابق محموم بين الطرفين لمن يظهر أنه المضطهد أكثر، واعتماد الطرف الإسرائيلي على وسائل الإعلام العالمية وخاصة اليمينية منها للتخفيف من حجم المآسي والكوارث الفلسطينية الحاصلة بعد حرب الإبادة الشّاملة في قطاع غزّة. هناك مفارقة واضحة بين خطاب الطرفين.
ومن الممكن ملاحظة كيفية تقديم ما يحدث من فظائع ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي كوصف الحالة الفلسطينية بالضحية، وأيضا كيفية بناء صورة إعلامية لتكون مقدمة لاحتفالات النصر الفلسطيني، وكأنّما الضحية تنتصر!
هذه الأزمة قد انسحبت على وسائل الإعلام التي اعتادت على تسخير كافة قدراتها ومقدراتها لتبرّج وجه حكم حماس في قطاع غزّة، وتحويل المظاهرات التي كانت تطالب بإسقاط حكم حماس إلى مسيرات لدعم الحركة والمطالبة بتحقيق الوحدة الوطنية، وهي ذاتها نظرت بعين بيضاء إلى جرائم الاغتيال السياسي في قطاع غزّة، وسعت وتسعى لتحويل الهزيمة العسكرية إلى انتصار ساحق.
أشرت في مقالاتي السابقة، هنا، في صحيفة “العرب” اللندنية إلى أمر لافت، أن حركة حماس لم تؤكد أو تنفي سقوط أكثر من 1200 قتيل إسرائيلي في هجومها في السابع من أكتوبر، وهذا أمر خطير، كونه سيلزم العالم أجمع على تبني رواية واحدة ألا وهي الرواية الإسرائيلية، وهي رواية مشوّهة ومتخصصة في مضاعفة أعداد الضحايا اليهود والمبالغة بالخسائر واستدرار الاستعطاف العالمي ولبس ثوب الضحية، وقد استغلت إسرائيل هذا الصمت الحمساوي أفظع استغلال.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، لماذا تصمت حماس، فهي لا تنفي ولا تؤكد، ولم تُسقِط عن نفسها هذه الاتهامات أو تدفعها، في ظل التباكي على هذا العدد الكبير من القتلى الإسرائيليين، ففي بداية الحرب كانت وسائل الإعلام الإسرائيلية تتحدث عن 1300 قتيل، ثمّ انخفض العدد إلى 1150 وقد ينخفض مستقبلا، وهذا أمر وارد.
إنّ ما حصل في السابع من أكتوبر، ينطبق عليه توصيف “الغزوة”، ولعل الغزوات في أيام الجاهلية، لم تكن لتختطف العجائز أو الشيوخ، فصورة العجوز السبعينية وهي مرغمة على ركوب دراجة نارية، يأخذها خاطفها لجهة مجهولة، لن يحقق لنا إلا المزيد من النفور العالمي وبالمقابل المزيد من التعاطف مع إسرائيل.
صمت حماس المريب يحلل بأمرين، الأوّل أنها تتباهى بإسقاط هذا العدد الكبير من القتلى الإسرائيليين أمام جمهورها الفلسطيني، فهي إن قدمت أرقاما مغايرة للأرقام التي ذكرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تعتمد سياسة التضليل كركن أساسي من عملها الإعلامي، ستخسر كبرياءها الشعبي، على الرغم من أنّ هذا الصمت ألصق أسوأ الاتهامات بها دون أن تدفعها عن نفسها، وبالتالي كان مبررا لإسرائيل أمام المجتمع الدولي هذا البطش المرعب، وإن أكدتها فهي تؤكد ما وسمته بها وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية من تهم الإرهاب، فهي في أمرين أحلاهما مرّ، ولذلك قررت أن “السّكوت من ذهب”.
والتحليل الثاني، أن حركة حماس لا تعرف ماذا فعل رجالها في ذاك اليوم وكيف أفلتت الأمور من زمامها، وحصل ما حصل، ودليل ذلك وجود عدد من الرهائن لدى بعض العشائر في غزّة وذلك حسب تصريحات قادة حماس أنفسهم.
وفي جميع الأحوال، كانت العشوائية والغوغائية، ظاهرة تماما في السابع من أكتوبر، وهذا يؤكد ضرورة قيام الفلسطينيين بمراجعة لتصرفات وأفعال الفصائل الفلسطينية وتقييم عملها، دون تقديس أعمال المقاومة ووضع هالة نورانية حولها، ولعل كتابة هكذا مقالات هي المقدمة لفهم ومراجعة ما حدث، والذي بسببه مازال الشعب الفلسطيني يدفع كلفة عالية وغالية لا تستطيع دول إقليمية تمتلك جيوشا نظامية وميزانيات عالية على دفعها.
الحديث عن الخسائر الكبيرة في صفوف الجيش الإسرائيلي بين قتلى وجرحى وإعطاب عدد كبير من آلياته وحالة الرعب التي تضرب بجنوده وأنّه لا يتحمل الخسائر، في الوقت الذي يتقدم فيه الجيش الإسرائيلي من الشّمال إلى الجنوب أي إلى رفح ومن ثم يعود إلى الشمال أي إلى مجمع الشّفاء الطبي ويرتكب المجازر هناك، مع الأخذ بعين الاعتبار الحديث الصّادق عن عدد الشّهداء والجرحى والأسرى الفلسطينيين الأبرياء، والمطالبة الحثيثة لوقف إطلاق النّار، كلها نقاط تضع المتابع العربي في حيرة من أمره.. فهل حماس هي المنتصرة، وإن كانت كذلك، لماذا تطالب بوقف إطلاق النّار، أم أن حماس هي ضحية، فإذا كانت كذلك، كيف تمرغ أنف إسرائيل في التراب وترفض الأخيرة وقف إطلاق النّار وتدّعي أنها الضحية التاريخية للمتطرفين من نازيين وفلسطينيين!
لعل ما تقوم به حماس يؤكد حالة التيه السياسي التي مرّت وتمر بها، والمؤشر على ذلك دعواتها المستمرة للضفة إلى الانتفاضة، وكأن الضفة الغربية تستجم وتستمتع بشمس الرّبيع، فهي تدفع ثمن ما فعلته حماس في السابع من أكتوبر، فعدد الشهداء يتزايد كل يوم وبلغ عدد الأسرى أكثر من ثمانية آلاف والاقتحامات لمدنها وقراها يومية، ويبلغ عدد الحواجز الإسرائيلية في الضفة الغربية 840 حاجزا وبوابة، وقد استولت إسرائيل على 27 ألف دونم من الأرض بعد السابع من أكتوبر، كما قامت الحكومة الإسرائيلية بالمصادقة على بناء 1895 وحدة استعمارية وتهجير 25 تجمعا بدويا، وذلك حسب بيان هيئة مقاومة الجدار والاستيطان في يوم الأرض.
والسؤال المطروح، لو حدث في مستوطنات الضفة الغربية ما حدث في مستوطنات غلاف غزة، ماذا سيكون الرد الإسرائيلي؟ هل سيقذفون الشعب الفلسطيني بباقات الورود وأوراق الزيتون ويطلقون حمائم السلام في سماء الضفة الغربية.
وفي المحصلة يجب الأخذ بعين الاعتبار أنّ حماس لو انتصرت في حربها كانت ستحتكر النصر لها لوحدها وتنسب الفضل لمقاتليها وقادتها وحكمتهم وستشكر رعاتها كالعادة، أمّا عندما تخسر الحرب كعادتها، فهي تريد من الكل الفلسطيني مشاركتها هذه الخسارة وهذا الدمار وتحمّل فوضويتها، وأن تورط كل الشعب الفلسطيني، والنتيجة الحتمية ستكون الإجهاز على الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.