في حادثة أعادت إلى الواجهة الجدل المحتدم حول العلاقة بين التوترات الدولية وأعمال العنف المحلية في الغرب، تحقق الشرطة الأميركية في خلفية هجوم مسلح استهدف أشخاصًا قرب المتحف اليهودي في واشنطن، وسط مؤشرات قوية على أن العمل ارتبط بخلفيات سياسية تتصل بالحرب الإسرائيلية على غزة.
الجاني المشتبه فيه، إلياس رودريغيز (31 عامًا)، هتف بعبارة “الحرية لفلسطين” قبل لحظات من تسليم نفسه للشرطة، بعد أن أطلق النار على شخصين خارج المتحف، في حادث وصفته السلطات بـ”المقلق والمفتوح على كل الاحتمالات”، لاسيما في ظل وجود رسالة مطوّلة نُشرت باسمه على الإنترنت، تحمل مضامين ذات طابع احتجاجي شديد، وتتهم الغرب بالتواطؤ مع ما وصفه بـ”الإبادة الجماعية” في غزة.
بيان من 900 كلمة: سلاح بيد الكلمات قبل أن يصبح طلقًا في الهواء
الرسالة التي يُعتقد أن رودريغيز نشرها قبيل تنفيذ الهجوم بيوم واحد، بتاريخ 20 مايو، تخوض في جدلية العلاقة بين الأخلاق والسياسة والسلوك البشري، وتطرح تأملات فلسفية حول معنى “الإنسانية” في ظل الجرائم الجماعية. يقول نص الرسالة: “العمل المسلح ليس بالضرورة عملاً عسكريًا… بل استعراضًا يحمل وظيفة رمزية”.
وتمضي الرسالة لتبرير العنف كفعل احتجاجي في سياقات معينة، معتبرة أن “الإنسان قد يكون فاضلًا في ظروف معينة، لكنه قادر على التحول إلى وحش في صمت العالم”. ويتجلى في النص مزج بين خطاب أخلاقي ساخط وموقف سياسي يائس، في محاولة لصياغة منطق داخلي لتفسير العنف خارج أطر القانون.
من الجرف الصامد إلى غزة 2024: ذاكرة الغضب وتأثير الحرب المستمرة
ما لفت انتباه المحققين بشكل خاص، هو إشارة رودريغيز في نصه إلى عملية “الجرف الصامد” الإسرائيلية التي وقعت في عام 2014، قائلاً إن تلك الفترة شكّلت لحظة وعي مفصلي لديه تجاه “السلوك الوحشي” ضد الفلسطينيين. هذه العودة إلى حدث مضى عليه أكثر من عقد، تعكس تراكمات نفسية وسياسية لدى المشتبه فيه، يبدو أنها بلغت ذروتها مع تصاعد الحرب الحالية في غزة، والتي تسببت في مقتل آلاف المدنيين، وخلّفت موجة غضب عالمي واسع، خاصة في أوساط الشباب الغربي المعارض للسياسات الإسرائيلية.
التحقيقات مستمرة: دوافع شخصية أم خطاب منظم؟
بينما لا تزال الشرطة تتحفظ على تفاصيل خلفية رودريغيز الاجتماعية والنفسية، يطرح توقيت نشر البيان، وتزامنه مع الهجوم، تساؤلات حول ما إذا كان العمل فرديًا بالكامل، أم نابعًا من تأثيرات خطاب متشدد يتم تداوله عبر الإنترنت. وتخشى السلطات الأميركية من أن يكون الحادث فاتحة لسلسلة من الهجمات المستوحاة من الأحداث الدولية، خاصة مع ازدياد مستوى التحريض الرقمي وتراجع قدرة المنصات الكبرى على ضبط خطاب العنف السياسي.
في المقابل، يلفت خبراء إلى أن الظاهرة ليست جديدة، فقد سبق أن ارتبطت أحداث عنف في أوروبا وأميركا بتطورات الشرق الأوسط، حيث يجد بعض الأفراد، خاصة أولئك المتأثرين بخطاب المظلومية العابر للحدود، أنفسهم مدفوعين إلى أفعال يائسة تحمل طابعًا احتجاجيًا شخصيًا، لكنها تُترجم على أرض الواقع إلى مآسٍ إنسانية.
بين التعبير والتهديد: أين ينتهي التضامن وتبدأ الجريمة؟
تسلط هذه الحادثة الضوء مجددًا على الخط الفاصل بين حرية التعبير والعمل العنيف، وعلى الطريقة التي يمكن فيها لتحولات سياسية كبرى، كالحرب في غزة، أن تنعكس بطرق مأساوية داخل مجتمعات بعيدة جغرافيًا عن الحدث، لكنها متصلة به وجدانيًا أو أيديولوجيًا.
ولا شك أن استغلال القضية الفلسطينية، بكل ثقلها الإنساني والسياسي، لتبرير العنف داخل مجتمعات مدنية، يشكل خطرًا مزدوجًا: فهو يسيء للقضية التي يدّعي الدفاع عنها، ويغذي في الوقت ذاته خطابات الكراهية المضادة، ويدفع بالسلطات نحو المزيد من التشدد ضد مظاهر الاحتجاج المشروع.
السياسة تحت سلاح الفرد الغاضب
في عالم متشابك القضايا والرموز، قد تتحول معاناة شعب في مكان ما إلى شرارة عنف في مكان آخر. وما حدث في واشنطن ليس إلا ترجمة مشوّهة لعالم لم يعد يفرّق بسهولة بين المعركة الأخلاقية والعمل الإجرامي، وبين الكلمة الغاضبة والطلقة القاتلة.