منذ أكثر من تسع سنوات، يعيش اليمن حالة من الحرب والتشظي والانهيار الشامل. ومع مرور الوقت، تتزايد المؤشرات على أن الحوثيين لا يقودون البلاد نحو السلام أو إعادة البناء، بل يرسّخون واقعًا من العنف والتسلّط والانغلاق الأيديولوجي. السؤال الذي بات يُطرح بجدية اليوم، إقليميًا ودوليًا، لم يعد يتعلق بإمكانية التوصل إلى تسوية سياسية، بل: إلى أين يقود الحوثيون اليمن؟ وهل يمكن للعالم أن يظل مكتوف الأيدي إزاء هذا المسار؟
في ظل تصعيدهم العسكري الأخير في البحر الأحمر، ومحاولاتهم المستمرة لفرض أمر واقع بالقوة، يُطرح اليوم سيناريو جديد يشبه في طبيعته التدخل الدولي الذي جرى في العراق في 2003. لكن هذه المرة، اليمن هو مسرح الحدث، وباب المندب هو البوابة التي قد تفتح مرحلة جديدة من التدويل الكامل للأزمة.
اليمن تحت سلطة الأمر الواقع: مشروع دولة أم مشروع جماعة؟
منذ سيطرتهم على العاصمة صنعاء في 2014، رسّخ الحوثيون سلطة أمر واقع تقوم على إقصاء القوى السياسية، فرض الأيديولوجيا الدينية، ومركزة القرار في يد جماعة لا تعترف بمفهوم الدولة الوطنية الحديثة. فقد أصبحت مؤسسات الدولة واجهة لسلطة دينية–عسكرية مغلقة، بينما يعاني اليمنيون في مناطق سيطرة الحوثيين من تدهور كارثي في المعيشة، وقمع منهجي للحريات، وتجنيد قسري للأطفال، وتمييز طائفي وهيمنة اقتصادية.
أخطر ما في المشروع الحوثي أنه لا يحمل تصورًا للدولة، بل يقوم على نسف فكرة الجمهورية ذاتها، وإعادة إنتاج حكم ثيوقراطي يتناقض كليًا مع أسس الدولة المدنية أو الديمقراطية. وهذا ما يطرح تساؤلات جدية حول مدى قابلية اليمن في ظل هذا الواقع للبقاء كدولة موحدة أو مستقرة.
باب المندب: الخط الأحمر العالمي
تصعيد الحوثيين في مضيق باب المندب، من خلال استهداف السفن التجارية الدولية بزعم مناصرة غزة، شكّل تحولًا استراتيجيًا خطيرًا. لم يعد الصراع محصورًا في نطاقه اليمني، بل انتقل إلى مستوى يؤثر على التجارة العالمية وأمن الطاقة. فباب المندب ليس مجرد مضيق جغرافي، بل شريان اقتصادي تمر عبره نسبة هامة من التجارة العالمية وناقلات النفط.
الهجمات المتكررة على السفن، والتحدي المباشر للقوات الدولية، دفعا بالعديد من الدول، بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، إلى تشكيل تحالف بحري دفاعي. غير أن هذا الخيار، وإن كان دفاعيًا، لا يبدو كافيًا لإزالة التهديد، مما يجعل فكرة التدخل العسكري المباشر داخل الأراضي اليمنية أكثر حضورًا في النقاشات الغربية، خاصة بعد فشل المساعي الدبلوماسية في تحقيق أي تقدم ملموس.
نحو “عراق جديد”؟ الخلفية والسياق
تشابهات عدة يمكن رصدها بين المشهد اليمني اليوم والوضع في العراق قبل الغزو الأمريكي في 2003. في الحالتين، هناك نظام أو سلطة تهيمن بالقوة، تقمع الداخل، وتتصادم مع الخارج. في العراق، كان الخطر يتمثل في امتلاك أسلحة دمار شامل (وإن ثبت لاحقًا عدم وجودها)، أما في اليمن، فالعنصر المهدِّد يتمثل في تحول الحوثيين إلى “حزب الله جديد”، على الحدود الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، وبسيطرة مباشرة على واحد من أهم المضائق البحرية في العالم.
يضاف إلى ذلك دعم إيران السياسي والعسكري للجماعة، وتحويل اليمن إلى نقطة ارتكاز لصراع إقليمي أوسع. هذا البُعد الدولي المتنامي في الأزمة يجعل سيناريو التدخل العسكري الدولي أكثر احتمالًا، خاصة إذا تراكمت الضربات ضد المصالح الغربية، واشتد تهديد الملاحة البحرية.
هل ينضج التوافق الدولي؟
حتى وقت قريب، كانت الدول الغربية تتجنب الحديث العلني عن عملية عسكرية شاملة ضد الحوثيين داخل اليمن، مكتفية بالضربات المحدودة والدفاعات البحرية. غير أن تكرار الهجمات، وفشل الردع، جعلا بعض العواصم تفكر بشكل أكثر صرامة. ومن هنا، بدأت تتشكل ملامح شبه توافق دولي على أن استمرار الوضع الحالي غير قابل للاستدامة.
التجربة العراقية أظهرت أن حشد الموقف الدولي يحتاج إلى “مبرر أخلاقي” و”ذريعة أمنية”. ومع تصاعد الهجمات الحوثية، قد يجد المجتمع الدولي في المساس بأمن الملاحة والتجارة العالمية ما يكفي من الذرائع لتحريك ملف التدخل. خاصة إذا ترافقت هذه الحملة مع خطاب يركز على إنقاذ اليمنيين من جماعة مسلحة استبدادية، كما حصل مع تبرير “تحرير العراق من صدام حسين”.
مسرح لصراع دولي
اليمن اليوم لا يعيش مجرد أزمة داخلية، بل يقف على حافة أن يتحول إلى مسرح جديد لصراع دولي مباشر. فالحوثيون، بممارساتهم وسلوكهم، لا يقودون اليمن نحو الاستقرار، بل نحو العزلة والتدويل والانهيار الكامل للدولة.
في ظل هذا الواقع، يصبح من المشروع طرح السؤال: هل ما زالت هناك فرصة لحل سلمي؟ أم أن الطريق بات مفتوحًا أمام مرحلة عسكرية جديدة، يقودها المجتمع الدولي تحت عنوان “تحرير اليمن”؟
ما هو مؤكد أن الاستمرار على هذا النحو لا يخدم لا اليمنيين ولا الإقليم، ويزيد من مخاطر نشوب صراع أوسع، ستكون كلفته باهظة على الجميع.