في مشهد يتكرر على امتداد الجامعات الأميركية منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، أعلنت جامعة واشنطن في سياتل عن إيقاف 21 طالبًا عن الدراسة ومنعهم من دخول الحرم الجامعي، بعد أن اعتقلوا خلال اعتصام داخل مبنى هندسي، احتجاجًا على علاقة الجامعة بشركة “بوينغ” الأميركية، والتي تعد من أبرز مزودي الجيش الإسرائيلي بالأسلحة والمعدات. القرار الذي صدر يوم الأربعاء عن إدارة الجامعة ترافق مع منع 13 شخصًا آخرين – لا ينتمون إلى الجسم الطلابي – من دخول الحرم الجامعي، في خطوة تشير إلى تشدد متزايد تجاه الموجة الطلابية المؤيدة للقضية الفلسطينية.
هذا التحرك من قبل إدارة الجامعة لم يكن معزولًا، بل جاء في سياق تصاعد ملحوظ لحركة احتجاجية طلابية غير مسبوقة، شملت جامعات كولومبيا وهارفارد و UCLA وغيرها، حيث باتت الجامعات ساحات مواجهة بين مطالب العدالة الأخلاقية وواقع التمويل العسكري-الأكاديمي المعقد. فالطلاب الذين احتلوا مبنى “الهندسة متعددة التخصصات” في جامعة واشنطن، كانوا يدركون الرمزية العميقة لموقع احتجاجهم: المبنى نفسه الذي موّلته شركة بوينغ جزئيًا بتبرع بلغ 10 ملايين دولار، ضمن أكثر من 100 مليون قدمتها للجامعة منذ عام 1917، بحسب ما أوردته صحيفة “سياتل تايمز”.
المحتجون، ومعظمهم من طلبة الهندسة، رفعوا مطالب واضحة: قطع العلاقات مع بوينغ، ومحاسبة الجامعة على استخدام أموال المتبرعين في تعزيز علاقات تصب في خانة دعم الاحتلال الإسرائيلي. لكن رد الجامعة لم يتأخر، إذ لجأت إلى سلطات إنفاذ القانون، وتمت مداهمة المبنى واعتقال الطلاب، وسط اتهامات بـ”تخريب الممتلكات” وإشعال حرائق في حاويات القمامة خارج الحرم.
الاحتجاج لم يكن مجرد رد فعل عاطفي على صور المجازر القادمة من غزة، بل كان نتاج وعي سياسي متصاعد في الأوساط الطلابية الأميركية، خصوصًا مع انكشاف شبكات التمويل الأكاديمي، التي تربط الجامعات الكبرى بمجمع الصناعات العسكرية. فشركة بوينغ، التي يطالب الطلاب بقطع العلاقات معها، ليست مجرد مانحٍ كريم، بل شريك مباشر في إنتاج منظومات عسكرية تُستخدم في استهداف الفلسطينيين، ما يجعل دعمها للجامعات في نظر الطلاب نوعًا من “تبييض السمعة” عبر الأوساط الأكاديمية.
رد الجامعة الذي وُصف من قبل ناشطين بأنه “قمعي”، يعكس مأزقًا أوسع تعيشه المؤسسات الأكاديمية الأميركية، التي تجد نفسها محاصرة بين ضغوط الممولين – لا سيما من شركات الصناعات الدفاعية – وصرخات طلابها الذين يطالبون بأن تكون الجامعات منصات للعدالة لا أدوات في خدمة آلة الحرب. وقد أثار القرار سلسلة من ردود الفعل الغاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اعتُبر أن معاقبة الطلاب بسبب موقف أخلاقي يُعد تراجعًا خطيرًا عن قيم الحرية الأكاديمية وحق التعبير.
من جهة أخرى، فإن تورط الجامعة في تمويل يأتي من شركات أسلحة، يطرح تساؤلات أوسع حول استقلالية القرار الأكاديمي في الولايات المتحدة، ومدى قدرة الجامعات على ممارسة دورها التنويري في ظل شبكة معقدة من المصالح المالية والسياسية. ومع تزايد عدد الجامعات التي تشهد احتجاجات مماثلة، قد تتحول هذه اللحظة إلى نقطة انعطاف في العلاقة بين طلاب الجامعات الأميركية وإداراتهم، لا سيما إذا ما استمرت المؤسسات في تجاهل المطالبات المتكررة بقطع علاقاتها مع من يُشتبه بتورطهم في انتهاكات حقوق الإنسان.
في العمق، ما يحدث في جامعة واشنطن ليس معركة بين إدارة جامعية وطلبة مشاغبين، بل هو تعبير مكثف عن الصراع القيمي الذي تعيشه أميركا اليوم: صراع بين جيلٍ يطالب بالمحاسبة الأخلاقية، ومؤسسات تسعى لحماية نفوذها المالي، حتى لو جاء على حساب العدالة. وبينما يزداد القمع الداخلي للأصوات المؤيدة لفلسطين، يبقى السؤال مطروحًا بقوة: إلى متى ستظل الجامعات الأميركية تحتمي بخطاب الحياد، وهي متورطة فعليًا في دعم آلة حرب لا تتوقف عن سحق الأبرياء؟