أمام التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية والمنافسة الجامحة في أفريقيا، لا أحد بمقدوره معرفة فرص إعادة انتشار تونسي سريع وفعال في القارة. حتى أولئك الذين يتقمصون أدوارهم في السياسة الخارجية للدولة ليسوا على قدر الإدراك اللازم لفهم أن الدولة عليها أن تستفيد مثلما يستفيد غيرها من ربط الدبلوماسية بالمصالح خدمة لأهدافها الإستراتيجية.
الحديث عن تطوير العلاقات مع أفريقيا وتعميقها هو موضوع متكرر في الخطاب السياسي التونسي، وغالبا ما يظل ضمن نطاق التصريحات العامة، حتى لو كان ذلك تحت المظلة السياسية، دون ترجمة حقيقية على أرض الواقع. ومن الصعب تحديد موعد محدد يتحرك فيه التونسيون بشكل فعلي نحو إعادة اكتشاف قارتهم لتحقيق المنفعة المتبادلة.
بالرغم من التاريخ المشترك بين تونس وبعض الدول الأفريقية، إلا أن التواصل الدبلوماسي ضعيف مقارنة ببعض الدول الأخرى التي نجحت في بناء شبكة من العلاقات الثقافية والاقتصادية المستدامة في القارة.
ثمة علامات لا تبدو مفهومة في تسيير هذا الجزء المهم والحيوي باعتباره قاطرة السياسة الخارجية للدولة، ليس فقط من أجل صورة تونس وحضورها ومشاركتها في القمم الأفريقية والمنتديات الاقتصادية، وإنما أيضا من حيث تأثيرها والمنافع، التي ستجنيها لو تم الانفتاح أكثر على قارة مليئة بالفرص.
من المهم التعريج على نقطة قد تقود في النهاية إلى حتمية اعتماد نمط جديد في النشاط الدبلوماسي. فتونس لم تعرف منذ الاستقلال أيّ تجديد في سياستها الخارجية، فقد كانت بيد شخص واحد يتحكم فيها. كان العرف لا يسمح لوزير الخارجية، الممثل الرسمي المفترض للدبلوماسية بالحديث عن سياسة بلاده الخارجية إلا عندما ينطق باسم رئيس الجمهورية، قد يكون أحد التفسيرات لمدى حصر كافة السلطات في شخص الرئيس.
لا يخفى على أحد أن الدولة اليوم تمر بمرحلة حساسة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا يستهلك معظم طاقة الحكومة والموارد. ويتم التركيز بشكل أساسي اليوم على معالجة الأزمات الداخلية، كالبطالة والتضخم والمطلبية الاجتماعية، مما يجعل السياسة الخارجية، بما في ذلك تعزيز العلاقات مع أفريقيا، تأتي في المرتبة الثانية.
غالبا ما تفتقر تونس إلى خطة إستراتيجية متكاملة تهدف إلى بناء علاقات طويلة الأمد مع دول القارة. هذا بالطبع يعطينا تأكيدا على أنه لا توجد آليات واضحة لتنفيذ هذه السياسات فعليّا، فتكرار التصريحات دون نتائج ملموسة قد يكون أحد المؤشرات على ذلك. وتونس ليست الوحيدة التي تسعى لتعزيز علاقاتها مع أفريقيا. فهناك دول أخرى في شمال أفريقيا، مثل المغرب ومصر، تسعى أيضا لزيادة نفوذها في القارة، مما يؤدي إلى منافسة على موارد وفرص محدودة.
إقرأ أيضا : الإرهابيون التونسيون في سوريا.. هل تستمر تونس بالتنسيق مع الشرع بشأنهم؟
السياسة الخارجية اتسمت طيلة عقود بالتوازن وكانت تعتمد على ثوابت بعيدة عن السجالات الأيديولوجية، التي تطغى على المشهد حاليا. كان الانخراط في الاتحاد الأفريقي، وهياكله، وحتى إقامة شراكات ضمن التكتلات الاقتصادية في الأعوام الأخيرة نتيجة طبيعية لعنوان مرحلة جديدة، لكن الساسة لم يفهموا حتى الآن حدود الأمن القومي ودبلوماسية المنفعة، وربما غابت عنهم أهمية إعادة التفكير في دور تونس في قارتها لكسر طوق الجمود.
ففي حين شهدت فترة الستينات والسبعيات والثمانينات ذروة الوحدة الأفريقية في توجهات الدبلوماسية التونسية، لاسيما مع التعبير عن التضامن الثابت مع حركات التحرير في القارة، اتسمت فترة النظام السابق (بن علي) بالتركيز على العلاقة مع أوروبا والولايات المتحدة وآسيا بشكل عرضي على حساب أفريقيا. ومع تفجر “الربيع العربي” بداية العقد الماضي كان من الطبيعي أن تدخل الدبلوماسية التونسية في سبات على كافة الأصعدة حتى أصبحت تدور في فلك الخمول.
تلك الاختيارات لم تكن بالضرورة خيارا تمليه التطورات الجيوستراتيجية، كالشراكة الأورومتوسطية في 1995 أو الشراكة المميزة بين تونس والاتحاد الأوروبي في 2012، بل كانت أيضا خيارا مقصودا من نخبة سياسية مدفوعة بميل طبيعي إلى عدم المغامرة في الأراضي البعيدة في أفريقيا، والاقتصار على التفاعل مع الجغرافيا الأوروبية والعربية فقط، فمثلا كانت الصناعة التونسية مرتبطة عضويا إلى حد ما بالقانون الأوروبي 72 بشأن تعزيز الصادرات، ناهيك عن الهجرة.
الوضع اليوم مختلف تماما، وعلى الدولة تجاوز التحديات. قد تحتاج إلى تبني مقاربة إستراتيجية مختلفة وأكثر تكاملا تعتمد على تعزيز البنية التحتية الاقتصادية، وتحسين العلاقات التجارية بشكل أكبر، وجذب الاستثمارات من أفريقيا.
صحيح أن تونس احتضنت وتحتضن دوما المؤتمرات الأفريقية (اقتصاد، تكنولوجيا، ثقافة وغيرها)، لكن الأهم من ذلك كان ضرورة التفكير في زيادة التركيز على الدبلوماسية العامة. فمثلا لدى البلد 12 سفارة فقط في قارة تضم 54 دولة. فهل هذا معقول؟
هذا الوضع انجرّ عنه ضعف في التواصل الدبلوماسي وحد من وضع خطط استباقية ضمن اتفاقيات ثنائية أو على المستوى متعدد الأطراف، حتى لو أُخذ في الاعتبار أن اتّباع هذا النمط كان بدافع التقشف في الموارد المخصصة لوزارة الخارجية نتيجة الأزمة المالية، أو ربما لاقتناع المسؤولين بعدم جدوى الوصول إلى بعض الأسواق لمبررات مختلفة.
علاقة تونس مع قارتها تشكو من غياب اتفاقيات جمركية ثنائية، إذا ما استثنينا السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا (كوميسا) التي انضمت إليها في 2018، ومنطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية التي أصبحت عضوا فيها سنة 2023. كما أن الربط الجوي دون المستوى المطلوب. لا توجد فروع لبنوكها في أفريقيا، كما هو الحال مع التجاري وفا بنك المغربي. أيضا البنية التحتية اللوجستية البحرية غير كافية لتسهيل حركة البضائع.
ما وصلت إليه تونس من عدم إلمام بمدى دور نشاط الدبلوماسية في التأثير أو المشاركة الفعّالة في قارتها بعيدا عن ممارسة أدوار العلاقات العامة يعطينا فكرة شاملة عن أن السياسة المتبعة، بها قصور عميق جدا.
لذا، على المسؤولين مراجعة السياسة الخارجية بكل تفاصيلها، وأن تعمل الدولة على استدارة سريعة نحو أفريقيا الآن ودون تأخير.