في مشهد لا يخلو من الحرج السياسي والارتباك الأمني، تأكدت الأنباء المتداولة في أروقة واشنطن حول استقالة مستشار الأمن القومي الأميركي، مايك والتز، المقرّرة يوم الخميس، على خلفية تسريب معلومات عسكرية حساسة بطريقة وصفت بأنها “مخجلة وغير مهنية”. التسريب، الذي يعود إلى أواخر مارس/آذار الماضي، ألقى بظلال قاتمة على إدارة ترامب الثانية، وأعاد إلى الواجهة التساؤلات حول معايير التعامل مع المعلومات المصنفة بالغة السرية داخل المؤسسات الأمنية العليا.
التفاصيل التي تكشفت على مدار الأسابيع الماضية كانت كفيلة بخلق أزمة مكتملة الأركان داخل البيت الأبيض. فقد تبين أن مايك والتز، وخلال نقاش مغلق بين كبار المسؤولين الأمنيين حول خيارات توجيه ضربات جوية ضد أهداف تابعة لجماعة الحوثيين في اليمن، أضاف “عن طريق الخطأ” صحفيًا إلى مجموعة خاصة على تطبيق سيغنال، تُستخدم لتبادل معلومات مصنّفة على أنها فائقة السرية. ما زاد من عمق الفضيحة أن الحوار داخل المجموعة تضمن تفاصيل حساسة حول توقيت ومواقع القصف، فضلًا عن تقييمات استخبارية للأهداف.
شبكة “سي بي إس” كانت أول من أورد خبر الاستقالة، مشيرة إلى أن نائب مستشار الأمن القومي، أليكس وونغ، سيغادر منصبه أيضًا في خطوة تعكس مدى الارتباك الذي أصاب دائرة القرار الأمني. وأكدت “فوكس نيوز” لاحقًا أن الرئيس دونالد ترامب يستعد للإعلان عن هذا التغيير رسميًا، وسط محاولات لاحتواء الغضب داخل الكونغرس وداخل البنتاغون.
في مقابلة أجراها والتز مع “فوكس نيوز”، بعد تفجّر القضية، أقرّ الرجل بمسؤوليته الكاملة، قائلاً: “أتحمّل المسؤولية كاملة. أنا من أنشأ هذه المجموعة”، موضحًا أنه أضاف الصحافي بالخطأ ظنًا منه أنه أحد الموظفين الأمنيين الذين يحملون أرقامًا مشابهة. وتابع قائلًا: “لقد كان خطأ فرديًا، لكنه كارثي في توقيته ومحتواه”.
الواقعة أثارت سخطًا واسعًا داخل وزارة الدفاع الأميركية، خصوصًا بعدما تبيّن أن وزير الدفاع بيت هيغسيت كان أيضًا مشاركًا في تلك المجموعة. وعلى الرغم من عدم ثبوت أي مشاركة مباشرة منه في التسريب، إلا أن وجوده في النقاشات التي تم الوصول إليها من طرف غير مصرح له زاد من حدة الانتقادات الموجهة للإدارة ككل.
وما يزيد من حساسية الأمر هو التوقيت الذي جاءت فيه الفضيحة، حيث كانت القوات الأميركية تنسق مع التحالف العربي لاستهداف مواقع نوعية للحوثيين مرتبطة بصواريخ باليستية وطائرات مسيرة إيرانية الصنع. المعلومات التي تسربت قد تكون قد أفسدت بعض تلك العمليات، أو منحت خصوم واشنطن فرصة لإعادة تموضع تكتيكي.
من جهة أخرى، يحاول البيت الأبيض تقليل الأضرار السياسية، حيث لم يتضح بعد من سيخلف مايك والتز في منصب مستشار الأمن القومي، وإن كانت الترشيحات الأولية تدور حول شخصية ذات خلفية استخبارية عسكرية لتبديد الشكوك بشأن كفاءة القيادة الأمنية.
الحدث أعاد إلى الأذهان فضائح مشابهة سابقة شهدتها إدارات سابقة، ولكن ما يميّز هذا الحادث هو بساطته التقنية مقابل خطورته الاستراتيجية. فحادث إدخال رقم هاتف خاطئ في مجموعة مراسلة مشفرة مثل “سيغنال” يظهر أن التهديدات لأمن المعلومات قد تأتي من إهمال بشري بسيط، لا من اختراقات إلكترونية معقدة.
البيت الأبيض يعيش الآن مرحلة مراجعة شاملة لإجراءات تبادل المعلومات بين كبار المسؤولين، وهناك حديث داخل لجان الأمن القومي بالكونغرس حول الحاجة لتقييد استخدام التطبيقات التجارية حتى لو كانت مؤمنة، في إدارة النقاشات الأمنية الحساسة.
في النهاية، يمثل خروج مايك والتز من المشهد الأمني الأميركي نهاية سريعة ومفاجئة لمسيرة لم تكتمل عامًا واحدًا، لكن آثارها مرشحة لأن تبقى فاعلة في ترميم الثقة داخل المؤسسات، وربما تضع إدارة ترامب أمام تحدٍّ حقيقي في إثبات جديتها في تأمين أسرار الدولة.