استهداف فرق الدفاع المدني في قطاع غزة يكشف بوضوح عن طبيعة الحرب الدائرة، والتي تتجاوز منطق المواجهة العسكرية التقليدية إلى استخدام الحصار والدمار كأدوات إبادة منظمة. حين تُقصف سيارات الإسعاف، وتُستهدف مراكز الإطفاء، وتُقتل الطواقم العاملة على إنقاذ الأرواح، فإن الرسالة تتجاوز مجرد إضعاف البنية التحتية: إنها محاولة لكسر روح الصمود وإبقاء الموت كقدر يومي لا مفر منه.
تفريغ المجتمع من أدوات بقائه
ما صرّح به المتحدث باسم الدفاع المدني محمود البصل، لا يُظهر فقط حجم الخسائر البشرية (115 شهيدًا وأكثر من 300 مصاب من طواقم الإغاثة)، بل يُجسّد ما يمكن وصفه بسياسة ممنهجة لتفريغ المجتمع من أدوات بقائه. في الحروب، يُعد الدفاع المدني أحد أعمدة الحماية المجتمعية، واستهدافه بهذا الشكل يوصل رسالة واضحة: لا أحد في مأمن، لا من ينقذ، ولا من يُنقَذ.
الدلالة الأخطر في هذا السياق أن عمليات القصف والتدمير لم تقتصر على الأفراد أو المركبات، بل امتدت إلى البنية المؤسسية بالكامل. تدمير 15 من أصل 20 مبنى تابعًا لجهاز الدفاع المدني، وتدهور وضع المركبات المستخدمة إلى الحد الذي توصف فيه بأنها “لا تصلح للعمل”، يعني أن القطاع بات يُدار ميدانيًا بأدوات شبه ميتة. وهذا يضيف طبقة أخرى من المعاناة، فحتى من نجا من القصف، لا يجد من يسعفه أو يدفن شهداءه أو يُخمد النيران حوله.
أما ما يثير الذهول في كل هذا، فهو المشهد الموازي لما يجري في مجال المساعدات. ما وصفه البصل بـ”نظام الإذلال” في آلية التوزيع، يعكس تخليًا كاملًا عن أدنى معايير الإنسانية. المساعدات، التي يفترض أن تكون طوق النجاة، باتت تُدار بعشوائية أقرب إلى الفوضى المتعمدة، حيث يُجبر الناس على دخول “أقفاص”، وتُوزع المواد بطرق مهينة، وسط غياب قاعدة بيانات أو إشراف حقيقي.
انتهاكات جسيمة للقانون الدولي
اتهام الاحتلال بدعم “سارقين” يتعاونون معه للسيطرة على المساعدات ليس مجرد تلميح، بل اتهام مباشر بجريمة مركبة: التجويع، الإذلال، والتمييز في توزيع الإغاثة، وكلها تقع ضمن نطاق انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني. هذا يُعيد إلى الأذهان ممارسات الحروب الأكثر ظلمة، حيث لا يُستهدف الخصم فقط، بل يُستهدف مجتمعه بأكمله، وتُدار المجاعة كسلاح ميداني.
الخلل في توزيع المساعدات لا يُعد فقط مشكلة إدارية، بل تجسيد لحالة التفكك داخل منظومة الإغاثة الدولية حين تُترك بدون رقابة، أو تسلّم إلى أطراف تتحالف مع القوة المحتلة، أو تغض الطرف عن شروط الكرامة والعدالة في التوزيع. التناقض بين الأرقام المُعلنة، كما في تصريح السفير الأميركي عن 5 ملايين وجبة، والواقع اليومي الذي يعيشه السكان، يفتح الباب لسؤال خطير: أين تذهب هذه الكميات؟ ولماذا لا تصل فعليًا إلى المحتاجين؟
حرب استنزاف مادي ومعنوي
استهداف الدفاع المدني وسرقة المساعدات ليسا تفصيلين معزولين، بل جزء من سردية أكبر، تحوّل فيها قطاع غزة إلى ساحة لا تُدار فيها الحرب فقط بالرصاص والصواريخ، بل بالمجاعة، والاختناق، وتدمير أدوات البقاء. وإذا كان الاحتلال يُمارس ذلك بشكل مباشر، فإن صمت المجتمع الدولي، بل وأحيانًا تواطؤه عبر غياب الشفافية في توزيع المساعدات، يُكمل دائرة القتل ببطء.
لا يمكن فهم هذا المشهد إلا كمزيج من حرب استنزاف مادي ومعنوي. تدمير الدفاع المدني يشلّ القدرة على النجاة، وتفكيك منظومة المساعدات يُبقي الناس رهائن الجوع، وفي الحالتين، يصبح المدني الفلسطيني هو الهدف، لا صدفة ولا بالخطأ، بل ضمن معادلة حسابية باردة تُدير الموت كأداة ضغط سياسي.