استمرار استهداف المدنيين في قطاع غزة يحمل دلالات عميقة تتجاوز الأرقام اليومية لعدد الشهداء والمصابين، وتضع علامات استفهام خطيرة حول أهداف هذه الحرب، وتوجهاتها، ومدى التزام إسرائيل بالقانون الدولي الإنساني. فمع كل يوم يمر، يسقط العشرات من الضحايا، غالبيتهم من النساء والأطفال، في مشاهد تكرّس صورة قطاع غزة كمكانٍ منكوب يواجه حرباً بلا قواعد ولا خطوط حمراء.
استراتيجية الضغط الإنساني
الهجمات التي تُنفّذ ضد تجمعات المدنيين، سواء أمام مراكز المساعدات أو في منازلهم أو حتى أثناء محاولتهم البحث عن الطعام، تؤكد أن الحرب فقدت ما تبقى من “التمييز” المفترض بين الأهداف العسكرية والمدنية. ما يحدث لم يعد مجرد “أضرار جانبية” كما تحاول بعض الروايات الإسرائيلية تسويقه، بل هو مسار ممنهج يشير إلى استراتيجية قائمة على استخدام الضغط الإنساني كسلاح سياسي وعسكري.
واحدة من أكثر دلالات هذا الاستهداف المتكرر هي رغبة إسرائيل في كسر الإرادة الجماعية لأهل غزة، من خلال تفجير كل ما تبقى من أمل أو أمن فردي. فعندما يُقتل طفل وهو في طابور المساعدات، أو تنهار أسرة بأكملها تحت ركام منزلها، فإن الرسالة الضمنية هي أن لا مكان آمن، ولا فرق بين مدني ومقاتل، والجميع هدف مشروع ضمن سياسة “الأرض المحروقة”.
بيانات الإدانة الشكلية
توقيت هذه الجرائم، في ظل تفشي المجاعة ونقص الدواء، يعزز فرضية أن العمل العسكري لم يعد محصورًا في ضرب البنى التحتية للفصائل المسلحة، بل أصبح أداة لإخضاع السكان جماعيًا من خلال التجويع والترهيب. وهذا النمط من الاستهداف الجماعي يعكس انهيارًا تامًا في المعايير الأخلاقية والعسكرية التي يُفترض أن تحكم سلوك أي جيش حديث، خاصة في ظل الرقابة الدولية والاتفاقيات الإنسانية.
الدلالة الأهم ربما، هي الصمت الدولي المطبق، أو الاكتفاء ببيانات الإدانة الشكلية دون تحركات عملية تُجبر إسرائيل على وقف حربها. استمرار هذه الانتهاكات يؤكد أن إسرائيل تعمل ضمن بيئة سياسية توفر لها غطاءً غير معلن، وتغض الطرف عن المذابح اليومية بذريعة “الحق في الدفاع عن النفس”.
أجيال مشبعة بالغضب والرغبة في الانتقام
لكن، ورغم كل هذا، فإن هذا الاستهداف الوحشي يُعيد طرح السؤال الأهم: ما الذي تحققه إسرائيل فعليًا من قتل مدنيين محاصرين؟ وهل يُمكن لمثل هذه السياسات أن تُنتج أمنًا أو سلامًا على المدى الطويل؟ المؤكد أن الاستهداف المتكرر للمدنيين يُعمّق الجروح، ويُغذي الكراهية، ويفتح الباب أمام أجيال مشبعة بالغضب والرغبة في الانتقام، ما يجعل الحديث عن حلول سياسية أو استقرار دائم ضربًا من الوهم.
استمرار هذه الجرائم، بصمت العالم وتواطؤ بعض القوى الفاعلة، لا يهدد فقط مستقبل غزة، بل يهدد منظومة القيم الدولية برمّتها، ويحوّل القانون الدولي من مظلة لحماية الإنسان، إلى مجرد وثيقة تُستخدم عند الحاجة فقط.