تصريحات اللواء احتياط إسحق بريك تمثل جرس إنذار داخلي خطير يكشف عن عمق الأزمة التي تمر بها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بعد ثمانية أشهر من حرب طاحنة على قطاع غزة، حربٌ لم تحقق حتى الآن أهدافها المعلنة، وعلى العكس تماماً، بدأت تُفرز نتائج عكسية تمس بصلب العقيدة الأمنية الإسرائيلية ومكانة جيشها إقليمياً ودولياً.
جيش الاحتلال يفقد البوصلة
بريك، المعروف بجرأته وانتقاداته العلنية للقيادة العسكرية، لم يكتفِ بالإشارة إلى الإخفاق العملياتي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، مشيراً إلى تفكك داخلي وشيك في قدرة الجيش على مواصلة الحرب، بفعل الإنهاك، والتراجع الاقتصادي، والانكشاف السياسي. هذه ليست ملاحظات تكتيكية عابرة، بل مؤشرات لانهيار بنيوي محتمل في واحد من أقوى جيوش المنطقة – كما لطالما قدم نفسه.
ما يلفت في هذه التصريحات هو الربط المباشر بين الإخفاق العسكري والقيادة السياسية التي “فقدت البوصلة”، على حد قوله. فبريك لا يتحدث عن أخطاء في القرار العسكري فحسب، بل يتهم صراحة القيادة بالسعي للبقاء السياسي على حساب المصلحة الوطنية، وهو اتهام خطير يعكس حجم الانقسام الداخلي وعدم الثقة بين مختلف مفاصل الدولة.
مسؤول يعترف بقصف المدنيين
اللواء المتقاعد يؤكد أن إسرائيل لم تعد تُقاتل “حماس” بقدر ما تقصف المدنيين، في إقرار واضح بأن أهداف الحرب تحولت من محاربة المقاومة إلى ممارسة العقاب الجماعي، وهو ما يزيد من الانتقادات الدولية، ويعري إسرائيل أمام العالم كدولة ترتكب إبادة جماعية، وليس كقوة تواجه تهديداً أمنياً.
تحذيره من تآكل الردع الإسرائيلي يحمل وزناً خاصاً في السياق الإقليمي. ففي منطقة تمور بالصراعات، تعتمد إسرائيل كثيراً على صورة التفوق العسكري والقدرة على الحسم السريع لردع خصومها. تراجع هذه الصورة في ظل العجز عن القضاء على حماس – رغم كل القوة النارية المستخدمة – يعني فتح الباب أمام جبهات جديدة قد لا تكون أقل عنفاً، من لبنان إلى سوريا وربما إيران.
أزمة الجيش لا تقتصر على السلاح والخطط، بل تمتد إلى البشر. مع تضاؤل الموارد، وارتفاع تكلفة الحرب، ستضطر إسرائيل، كما يقول بريك، إلى تسريح جنود الاحتياط ومنح النظاميين فترات راحة، في وقتٍ يتطلب فيه الاستنفار الدائم. هذا تعبير واضح عن استنزاف داخلي قد يتحول إلى نقطة ضعف إستراتيجية، ليس فقط على الأرض، بل في توازن القوى الإقليمي.
انتحار جماعي
في خلفية هذه التحليلات، تطفو المأساة الإنسانية في غزة، التي وصفها بريك ضمناً، حين أشار إلى “مخطوفين يموتون في الأنفاق” و”مدنيين يُقصفون بلا نتائج”. فالحرب باتت عبثية، والجيش الذي كان يُنظر إليه كمصدر للفخر الوطني، أصبح في رأيه – كما في رأي قطاعات واسعة داخل إسرائيل – أداة لتنفيذ سياسات فاشلة، ستقود، حسب وصفه، إلى “انتحار جماعي”.
ما يقوله بريك اليوم ليس مجرد نقد داخلي، بل تسريب نادر لواقع تنهار فيه ثقة النخبة الأمنية بمشروع الحرب نفسه، وسط عالم يزداد قناعة بأن إسرائيل لم تعد القوة القادرة على فرض معادلاتها، بل طرف يُنازع داخل مستنقع صنعته قيادته، ويصعب الخروج منه دون ثمن استراتيجي باهظ.