تُظهر المعطيات الصادرة عن مؤسسات الأسرى الفلسطينية للنصف الأول من عام 2025 تصعيدًا خطيرًا في سياسات القمع والاعتقال التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، وتحديدًا في أعقاب حرب الإبادة التي شكّلت نقطة تحول ميداني وسياسي في تعامل الاحتلال مع السكان تحت الاحتلال. بلغ عدد حالات الاعتقال في هذه الفترة 3850 حالة، من بينها نحو 400 طفل و125 امرأة، في مؤشر واضح على شمولية القمع واتساع نطاق استهداف الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.
تدمير مقومات البقاء
التقرير لا يرصد أرقامًا فقط، بل يوثق ما يمكن اعتباره حملة ممنهجة قائمة على الانتقام والتجريف الاجتماعي. ففي محافظة جنين وحدها، تم تسجيل 920 حالة اعتقال خلال ستة أشهر، وفي طولكرم 455 حالة، إلى جانب ما رافق هذه الحملات من عمليات تهجير قسرية لعشرات الآلاف، وعمليات هدم، واغتيالات، وإعدامات ميدانية، وهو ما يُشير إلى أن الاعتقال أصبح أداة ضمن منظومة عقابية أوسع تتضمن التطهير السكاني وتدمير مقومات البقاء.
اللافت في التقرير أن جزءًا كبيرًا من هذه الاعتقالات تم من خلال ما يُعرف بـ”التحقيقات الميدانية”، وهي إجراءات غير رسمية، غالبًا ما تتم في ظروف ميدانية قاسية وبدون رقابة قانونية، وشملت في كثير من الحالات التعذيب والتنكيل وسوء المعاملة. وقد طالت هذه الإجراءات النساء، والأطفال، وكبار السن، ما يعكس فقدان الاحتلال لأي ضوابط في ممارسة القوة والسيطرة.
ملف سري
واقع الأسرى داخل السجون الإسرائيلية لا يقل مأساوية، بل ربما يفوقه من حيث الطبيعة المنهجية للانتهاكات. فالتقرير يسلط الضوء على جرائم واسعة داخل المعتقلات، من تعذيب وتجويع إلى حرمان صحي ونشر للأمراض، وفي مقدمتها تفشي مرض الجرب (السكابيوس)، الذي أودى بصحة المئات، في ظل غياب الرعاية الطبية وتعمُّد ترك الأسرى دون علاج. كما تم تسجيل 19 حالة استشهاد بين المعتقلين خلال النصف الأول من 2025، بينهم أطفال، وأسرى من غزة والضفة، في تطور خطير يعكس اتساع دائرة العنف داخل المعتقلات.
واحدة من أخطر التحولات، وفق التقرير، تكمن في استخدام سلطات الاحتلال للاعتقال الإداري على نحو غير مسبوق، حيث بلغ عدد المعتقلين الإداريين حتى بداية يوليو نحو 3629 معتقلًا، من بينهم 87 طفلًا و10 نساء، بينهم طفلة. هذا الاستخدام المفرط لهذا النوع من الاعتقال، القائم على “ملف سري” دون توجيه تهم رسمية أو تحديد مدة زمنية، يُعدّ مؤشرًا على تحوّل الاعتقال إلى سياسة لإعادة ضبط المجتمع الفلسطيني وتفكيك نسيجه.
في ظل هذه السياسة، بلغ إجمالي أعداد المعتقلين في السجون الإسرائيلية نحو 10,800 أسير حتى يوليو 2025، دون احتساب المعتقلين في معسكرات الجيش. وهذا الرقم هو الأعلى منذ انتفاضة الأقصى، وهو يعكس واقعًا صادمًا، تُستخدم فيه منظومة الاعتقال ليس فقط كوسيلة ردع، بل كجزء من آلة حرب شاملة تستهدف الحضور الفلسطيني على الأرض.
سياسة الإبادة الناعمة
التقرير يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية، خصوصًا في ظل توثيق المئات من الإفادات والشهادات التي تؤكد ممارسة الاحتلال لجرائم ترقى إلى مستوى التعذيب، والإهمال الطبي، والإعدام البطيء، إلى جانب الانتهاكات الجنسية والعنف الممنهج داخل المعتقلات. كما يؤكد أن استمرار هذه السياسات، وسط غياب المحاسبة، يدفع نحو مزيد من التدهور في الأوضاع الإنسانية والحقوقية.
خلاصة المشهد كما ترسمه مؤسسات الأسرى، أن الاعتقال لم يعد إجراءً أمنيًا أو احترازيًا، بل أصبح ركيزة مركزية ضمن سياسة “الإبادة الناعمة”، القائمة على تفريغ الأرض من سكانها، وكسر إرادة الباقين، وتقويض المجتمع الفلسطيني من الداخل، بأساليب قانونية صُوَرية ووسائل قمعية ممنهجة، في ظل تواطؤ دولي وصمت مريب.