في سجن “مجيدو”، لا تمرّ الأيام، بل تُسحق.. حيث يتحوّل الوقت إلى جدار من العتمة، تتآكل فيه الأرواح بصمت، وتذبل الأجساد كما تذبل الزهور في العواصف دون ماء. هنا، خلف القضبان الحديدية، لا يحتاج الألم إلى صوت، فالصمت وحده كافٍ ليكون شهادة على ما يُمارس بحق الأسرى، خاصة الأطفال منهم، أولئك الذين خُطفوا من بين ألعابهم، واقتيدوا فجراً من منازلهم، ليُزجّ بهم في عالم لا يرحم، ولا يعترف بطفولتهم، ولا حتى بآدميتهم.
تجويع وتعذيب الأسرى
الأسير الشاب فادي إبراهيم شامي، ابن الرابعة والعشرين من نابلس، كان شاباً في مقتبل العمر، جسد رياضي وقلب طموح، لكنه الآن يقف أمام المرآة – إن وُجدت – فلا يعرف نفسه. منذ اعتقاله في مايو 2023 وحتى اليوم، فقد 22 كيلوغرامًا من وزنه، ليس لمرض عضال، بل بفعل سياسة تجويع ممنهجة، حيث يُقدَّم الطعام القليل الرديء وكأنه عقوبة إضافية، لا حاجة أساسية. لم يُسمح له بأن يمرض بكرامة، ولا أن يشعر بالجوع بخصوصية، فكل شيء في الأسر مكشوف.. حتى الألم يُراقَب.
أما الشبل قيس ناصر محمد شحادة، صاحب الخمسة عشر ربيعاً، فلم يكن يعرف أن طريق المدرسة قد يتحوّل ذات يوم إلى زنزانة. اعتُقل من بيته في أبريل 2025، وتعرّض منذ لحظة اعتقاله للضرب أكثر من مرة. في عتصيون، كانت “الضيافة” صفعًا، وركلاً، وشتائم لا يستطيع قلب طفل أن يفهمها، لكنه بالتأكيد لن ينساها. حين نُقل إلى مجيدو، ظنّ أنه ربما يكون الوضع أقل قسوة، لكن السجن لا يفرّق بين صغير وكبير، فالجدران هنا لا تحتضن، بل تسحق.
مقبرة جماعية
حمزة عمر محيسن، 17 عامًا، من مخيم العروب، يعيش هو الآخر فصول الرواية ذاتها. قُدِّر له أن يقيم في القسم الخامس، الغرفة 11، ليس بصفته نزيلاً عاديًا، بل كرقم جديد في سجل المعتقلين القُصّر. تعرّض للضرب عدة مرات خلال اعتقاله، ولم ينسَ كيف هُشّمت كرامته قبل أن يُعرف حتى عن اسمه شيء. هو الآن واحد من كثيرين، تُقتطع من “الفورة” التي بالكاد تمتد ساعة، فيخرج نصف الوقت إن خرج، يتنفس قليلاً، ثم يعود إلى الزنزانة التي لا تدخلها الشمس ولا تصلح لأن تكون مأوى لأي إنسان.
سجن “مجيدو” اليوم يُشبه مقبرة جماعية للأمل. تسع أقسام مكتظة بما يقارب 72 أسيرًا في كل واحد، وأمراض الجلد تنهش أجسادهم. الجرب ينتشر، وكأن الجلد يصرخ طلبًا للهواء، للماء، للنظافة، لكن لا مجيب. والدواء إن وُجد، فلا يجدي، لأنه يُقدّم كما يُقدّم الطعام: فقط ما يُبقي الأسير على قيد الحياة، لا أكثر. تهوية معدومة، نظافة غائبة، وأجساد منهكة، تنام على أسِرّة معدنية باردة، وأحلام تُسرق كل ليلة.
انتهاك القانون الدولي
لا يحتاج الأسرى في سجون الاحتلال إلى روايات تُكتب عنهم، فهم يعيشون الرواية لحظة بلحظة. كل اسم خلف القضبان هو قصة، وكل وجه شاهدٌ على انتهاك صارخ لكل ما يُسمى قانونًا دوليًا أو إنسانيًا. ومع كل يوم يمر، تتجدد المعاناة، لكن الصمود أيضًا يتجدد.. فبين الجوع والضرب، هناك نبض داخل كل أسير يقول: “لن تُكسروا إنسانيتنا، حتى وإن سلبتم حريتنا”.