استشهاد الصحفي الفلسطيني حسن أصليح، فجر اليوم الثلاثاء، داخل غرفته العلاجية في مجمع ناصر الطبي، ليس مجرد “حادث مؤسف” أو “أضرار جانبية” كما تحاول إسرائيل تسويق جرائمها في غزة، بل هو جريمة اغتيال واضحة ومتعمدة تُضاف إلى سلسلة طويلة من الجرائم الممنهجة التي تستهدف الصحفيين والمؤسسات الإعلامية في القطاع، ضمن حرب مفتوحة ضد الحقيقة، والوعي، والذاكرة.
لماذا تستهدف إسرائيل الصحفيين؟
استهداف الصحفيين ليس سلوكاً عشوائياً أو ناتجاً عن خطأ ميداني، بل هو جزء من عقيدة أمنية وسياسية متكاملة تتبعها إسرائيل، تقوم على التحكم في الرواية، وتصفية كل من يفضح جرائم الحرب والفظائع المرتكبة بحق المدنيين. فمع استمرار العدوان وارتفاع أعداد الشهداء والدمار الواسع، يصبح الصحفي شاهداً خطيراً يجب التخلص منه، خاصة إذا كان ناشطاً على الأرض، يواكب المجازر لحظة بلحظة، بالصوت والصورة.
الشهيد حسن أصليح لم يكن صحفياً عادياً. كان من أبرز الميدانيين في غزة، يعمل من قلب المناطق المستهدفة، وينقل بالصوت والصورة لحظات القصف، وصراخ الأطفال، والدمار، والركام. متابعوه بالملايين على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد شكلت تغطيته خرقاً لرواية الاحتلال التي تحاول دائماً تصوير الضحايا كـ”إرهابيين” أو “أضرار جانبية”. وجود صحفي مثل أصليح على قيد الحياة هو تهديد مباشر للرواية الإسرائيلية، ولذلك كان استهدافه ضرورة بالنسبة لهم.
استهداف داخل مستشفى
قصف غرفة علاجية داخل مجمع طبي ليس فقط استهدافاً لمدني أو لصحفي، بل هو انتهاك مزدوج: قصف لمرفق طبي محمي بموجب القانون الدولي، واغتيال لمواطن أعزل يتلقى العلاج، وهو ما يرقى إلى جريمة حرب موثقة بكل المعايير القانونية.
الهجوم على أصليح داخل مستشفى يُرسل رسالة خطيرة: “لا حماية لأحد، لا في الميدان، ولا في المستشفى، ولا حتى في لحظة العلاج.” هذه هي سياسة الإبادة التي تتجاوز القتل إلى تدمير الأمل والكرامة وكل معاني الحياة.
الأرقام تفضح الجريمة المنظمة
منذ بداية العدوان على غزة في أكتوبر 2023، ارتفع عدد شهداء الأسرة الصحفية إلى 213 صحفيًا وصحفية، وهو رقم لم يُسجل في أي صراع معاصر بهذا المعدل، سواء في العراق أو سوريا أو أفغانستان. هذا الرقم وحده كافٍ لتأكيد وجود نية مبيتة لتصفية الصحفيين بشكل جماعي. لا أحد يُقتل بهذه الأعداد بالصدفة.
تتنوع أشكال الاستهداف بين:
اغتيالات مباشرة بقصف من الطائرات أو القناصة.
قصف منازل الصحفيين وعائلاتهم.
تتبع أماكن وجودهم باستخدام تكنولوجيا متطورة.
اغتيالهم داخل سياراتهم أو مواقع عملهم أو حتى داخل المستشفيات.
هل الهدف منع كشف جرائم الإبادة؟
بوضوح شديد: نعم. الصحفيون هم العين التي تفضح، والصوت الذي يكسر حاجز الصمت. مع كل شهيد صحفي، تخسر الحقيقة مرآة جديدة، وتتمكن آلة الحرب الإسرائيلية من التقدم دون توثيق. وفي عصر الصورة والفيديو، فإن قتل المصوّر لم يعد فقط استهدافًا لشخص، بل إعدامًا للحقيقة.
إسرائيل تدرك تماماً أن أكبر معركة تخوضها اليوم ليست فقط مع الفصائل المسلحة، بل مع الرأي العام العالمي، والإعلام، ومنصات التواصل، التي باتت تنقل المشاهد الفاضحة في لحظتها، وتكشف زيف ما تروّجه المؤسسات الإسرائيلية الرسمية.
المساءلة القانونية
بموجب القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الملحقة بها، فإن الصحفيين الذين لا يشاركون في الأعمال القتالية يُعدّون مدنيين محميين. واستهدافهم يُصنف كـ”جريمة حرب”، وقد يُصنّف ضمن “الجرائم ضد الإنسانية” في حال ثبت أنه تم بشكل منهجي وعلى نطاق واسع، كما هو حال غزة.
محكمة الجنايات الدولية (ICC) تملك الولاية القضائية لفتح تحقيقات في هذه الجرائم، خاصة أن فلسطين عضو في المحكمة منذ 2015. كما أن توثيق حالات الاغتيال الفردي والممنهج يعزز ملف “الإبادة الجماعية” الذي قدمته جنوب إفريقيا ضد إسرائيل.
لكن، ورغم وجود الأساس القانوني، تبقى المعضلة الأساسية هي غياب الإرادة السياسية الدولية، وتواطؤ قوى كبرى في تعطيل المسار القانوني. في المقابل، تستمر المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والدولية في توثيق كل حالة، من أجل إنشاء ملف قانوني شامل للمحاسبة المستقبلية.
ما الذي يمكن فعله؟
استمرار التوثيق المحترف لكل حالة استهداف للصحفيين، مع فيديوهات، أسماء، مواقع، وشهادات.
رفع القضايا فرديًا في محاكم دولية ومحلية تسمح بآليات “الاختصاص العالمي” مثل محاكم بعض الدول الأوروبية.
حشد المؤسسات الإعلامية العالمية لكسر الصمت، وإنشاء جبهة مهنية دولية لحماية الصحفيين.
فضح تواطؤ بعض وسائل الإعلام الدولية التي تتبنى رواية الاحتلال وتتجاهل مقتل زملاء المهنة.
استشهاد الصحفي حسن أصليح هو عنوان جديد لمجزرة تُمارس يوميًا بحق الصحفيين الفلسطينيين، لأنه في عرف الاحتلال، الحقيقة تُهدد مشروعه أكثر من الصاروخ. لكنها في المقابل، تُنبت وعياً، وتُشعل ضميرًا عالميًا سيبقى يومًا ما، هو السلاح الأقوى في وجه آلة القتل.