اقتحام مستوطنين لمقر وكالة “الأونروا” في حي الشيخ جراح بالقدس، بقيادة شخصية برلمانية يمينية من الكنيست الإسرائيلي، ليس مجرد عمل استفزازي عابر، بل يحمل دلالات سياسية خطيرة في سياق أوسع من العدوان الممنهج على الوجود الفلسطيني، وتحديدًا على رموز الشرعية الدولية مثل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.
هذا الهجوم يكشف عن تصعيد نوعي في السلوك الاستيطاني، انتقل من استهداف الأفراد والمنازل إلى محاولة فرض السيطرة المباشرة على مؤسسات دولية، بما فيها المقر الرئيسي للأونروا في القدس، في رسالة واضحة مفادها أن إسرائيل لا تعترف بوجود أي كيان أو مؤسسة تحمل طابعًا أمميًا تدافع عن حقوق الفلسطينيين، خاصة قضية اللاجئين، التي تحاول إسرائيل بكل السبل شطبها من جدول النقاش السياسي.
فرض سردية السيطرة الإسرائيلية
الاقتحام مرتبط رمزيًا بـ”ذكرى احتلال القدس الشرقية” حسب التقويم العبري، وهي مناسبة تستخدمها التيارات اليمينية المتطرفة لإعادة فرض سردية السيطرة الإسرائيلية الكاملة على المدينة، بما في ذلك أحياؤها الفلسطينية ومؤسساتها الدولية. وبهذا، فإن اختيار التاريخ والمكان يعكس محاولة مدروسة لتكريس أمر واقع استعماري جديد، يتجاوز السيطرة الجغرافية إلى تفكيك الوجود السياسي والإنساني الفلسطيني، ومحوه من خريطة المدينة.
الاقتحام ليس مجرد تصرف فردي من مستوطنين متطرفين، بل يعكس دعمًا ضمنيًا، وأحيانًا مباشرًا، من قبل مؤسسات رسمية إسرائيلية، بما فيها الحكومة التي سبق أن طلبت من الأونروا إخلاء المقر، وفرضت عليها غرامات مالية باهظة. كل ذلك يؤكد أن الهدف ليس فقط تعطيل عمل الأونروا، بل طردها بالكامل من القدس، تمهيدًا لشطبها كرمز لقضية اللاجئين، وبالتالي، ضرب واحد من أبرز ركائز القضية الفلسطينية: حق العودة.
تحويل موقع الأونروا إلى بؤرة استيطانية
الهجوم يأتي أيضًا في ظل خطوات متسارعة لتحويل موقع الأونروا إلى بؤرة استيطانية جديدة تضم أكثر من 1400 وحدة استيطانية، ما يرسخ استراتيجية “التهويد المتدرج” للقدس، عبر بناء واقع استيطاني لا يمكن التراجع عنه لاحقًا في أي تسوية مستقبلية.
على المستوى القانوني والسياسي، يمثل هذا الاقتحام تحديًا سافرًا للأمم المتحدة نفسها، ولشرعية وجودها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو اختبار مباشر لمواقف المجتمع الدولي ومدى استعداده لحماية مؤسساته، لا فقط الشعوب التي يدّعي الدفاع عنها. فإن لم تتمكن المنظمة الدولية من حماية مقرها في القدس، فكيف ستتمكن من تنفيذ قراراتها في أي ملف آخر؟
إعلان ناعم لحرب شاملة
الرسالة السياسية التي تبعث بها إسرائيل من خلال هذا الاقتحام مزدوجة: من جهة، هي رسالة للمجتمع الدولي بأن السيادة الإسرائيلية في القدس “لا تعترف بأحد”، لا مؤسسات دولية ولا قوانين. ومن جهة أخرى، هي رسالة للفلسطينيين بأن أدواتهم السياسية والإنسانية يتم تفكيكها واحدة تلو الأخرى، في محاولة لعزلهم حتى من حقهم في تلقي الخدمات الأساسية، وربط وجودهم في المدينة بشرعية الاحتلال.
بالتالي، ما حدث في مقر الأونروا ليس مجرد اقتحام ميداني، بل هو إعلان ناعم لحرب شاملة على الحق الفلسطيني، وعلى رموزه وامتداداته القانونية والسياسية والإنسانية، في محاولة لاغتيال المعنى قبل اغتيال البشر.