فيي قلب السجون الإسرائيلية، يقبع آلاف الأسرى الفلسطينيين، محرومين من الحرية، ومجردين من أبسط حقوق الإنسان، وسط منظومة متكاملة من القمع الممنهج الذي يمتد من القيود الحديدية إلى العزلة الانفرادية، ومن سوء المعاملة الجسدية إلى الإذلال النفسي الرمزي، كما كشفت مؤخرًا خطوة سلطات الاحتلال بتعليق صور دمار غزة داخل زنازين الأسرى. هذه السجون ليست فقط أماكن للاحتجاز، بل أصبحت فضاءً مكثفًا لانتهاك الكرامة الإنسانية، وأداة ضمن أدوات الاحتلال في إخضاع الشعب الفلسطيني وتفكيك مقاومته النفسية والاجتماعية.
الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال لا يُعاملون كأسرى حرب، ولا حتى كسجناء جنائيين، بل يُعاملون ككائنات خارجة عن القانون، محرومة من المعايير الدولية التي تحكم التعامل مع السجناء. الانتهاكات تبدأ منذ لحظة الاعتقال، التي كثيرًا ما تتم في ظروف عنيفة، غالبًا في ساعات الفجر، وأمام عائلاتهم، ويُجرى اقتيادهم وهم معصوبي الأعين ومقيّدي الأيدي. كثيرون منهم يُحرمون من معرفة التهم الموجهة إليهم، خصوصًا في حالات ما يُعرف بـ “الاعتقال الإداري”، حيث يُحتجز الفلسطيني دون تهمة أو محاكمة لفترات قابلة للتمديد، فقط بموجب “ملف سري” لا يحق للمعتقل أو محاميه الاطلاع عليه.
انتهاكات جسيمة
داخل السجون، يعاني الأسرى من سلسلة من الانتهاكات الجسيمة، تبدأ بالإهمال الطبي المتعمد، حيث يُحرم المرضى من العلاج المناسب، أو يُمنحون مسكنات فقط لتخفيف الألم دون معالجة الأسباب الجذرية. وقد أودى هذا النهج بحياة عدد من الأسرى في السنوات الماضية، في ظل غياب رقابة دولية فعّالة. كما يتعرض الأسرى للتعذيب الجسدي والنفسي، خصوصًا خلال التحقيق، حيث تُستخدم وسائل مثل الحرمان من النوم، الصدمات الكهربائية، الشبح (الربط بوضعيات مؤلمة لفترات طويلة)، والتهديدات الموجهة لعائلاتهم.
تُفاقم العزلة الانفرادية المعاناة النفسية للأسرى، حيث يُحتجز بعضهم لشهور أو حتى سنوات في زنزانات ضيقة بلا نوافذ، يُمنعون خلالها من التواصل مع غيرهم من الأسرى أو مع العالم الخارجي، ولا يُسمح لهم سوى بالخروج إلى ما يُعرف بـ”الفورة” (ساحة السجن) لساعة واحدة يوميًا تحت مراقبة مشددة. هذه الإجراءات تترك آثارًا نفسية عميقة، حيث أظهرت تقارير حقوقية أن نسبة كبيرة من الأسرى يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، الاكتئاب، والقلق المزمن.
تقويض الروح المعنوية
أما الأسرى الأطفال، فيواجهون واقعًا أكثر قسوة، إذ يتم اعتقال المئات من الأطفال الفلسطينيين سنويًا، غالبًا بتهم مثل رمي الحجارة أو المشاركة في مظاهرات. يتم التحقيق معهم دون وجود محامٍ أو ولي أمر، وغالبًا ما يتعرضون للضغط النفسي والتهديدات، ويُحتجزون في ظروف لا تراعي خصوصيتهم العمرية أو النفسية.
ومع تصاعد العدوان على غزة، باتت السجون الإسرائيلية جزءًا من آلة الحرب النفسية، حيث أقدمت سلطات الاحتلال على تعليق صور الدمار الهائل في غزة داخل زنازين الأسرى، كأداة رمزية للضغط النفسي. هذا الفعل، رغم بساطته الظاهرية، يُعد خرقًا صارخًا لكل الأعراف الإنسانية، إذ يُحوّل الصورة من وثيقة بصرية إلى أداة قهر، ويحوّل الزنزانة إلى شاشة عرض دائمة لليأس، في محاولة لتقويض الروح المعنوية، وبث الإحساس بالعجز أمام واقع لا يمكن تغييره.
السجن ساحة حرب
في ظل هذا الواقع، تعجز المنظمات الدولية في كثير من الأحيان عن التدخل الفعلي، بسبب تقييد إسرائيل لزيارات الصليب الأحمر، ورفضها المتكرر لتوصيات الهيئات الأممية. وحتى عندما يُدان الاحتلال في المحافل الدولية، تبقى تلك الإدانات في حدود الكلام، دون أي تبعات عملية تفرض تحسين أوضاع الأسرى أو مساءلة منتهكي حقوقهم.
أوضاع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال إذًا ليست مجرد قضية إنسانية، بل هي تجلٍّ صارخ للسياسة الإسرائيلية في التعامل مع الفلسطينيين بمنطق القهر والإخضاع، حيث يُحوّل السجن إلى ساحة حرب، تُستخدم فيها كل الأدوات الممكنة، المادية والرمزية، لتفكيك صلابة الإنسان الفلسطيني، وكسر إرادته. ومع ذلك، يظل الأسرى رمزًا للصمود الفلسطيني، إذ حوّل كثير منهم الزنزانة إلى منبر، والمعاناة إلى شهادة على جريمة لم يعد من الممكن إخفاؤها.