تصريحات لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالتحقيق في الممارسات الإسرائيلية، التي حذّرت من وقوع “نكبة ثانية”، ليست مجرد توصيف سياسي أو لغوي عابر، بل هي توثيق خطير لحالة إنسانية تتدهور بسرعة، وتنبّه مبكر إلى ما قد يُعتبر في القانون الدولي تطهيراً عرقياً ممنهجاً. فحين تستخدم لجنة أممية هذا التعبير المحمّل بالذاكرة التاريخية والجراح الفلسطينية العميقة، فإنها ترسل إشارة واضحة بأن ما يجري في الأراضي الفلسطينية، خصوصاً في غزة والضفة الغربية، ليس فقط صراعاً عسكرياً، بل مشروع اقتلاع وجودي يعيد إنتاج نكبة 1948 بحلة جديدة.
ما تقوله اللجنة بوضوح هو أن إسرائيل، تحت ستار “العمليات الأمنية”، تدفع باتجاه تنفيذ خطة استراتيجية تهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين واستبدالهم بالمستوطنين. هذا المخطط لم يعد يُنفّذ على مراحل بطيئة كما في السابق، بل بات يأخذ شكل عملية استعمارية متسارعة، مدفوعة بتشجيع سياسي داخلي، وغطاء عسكري، وصمت دولي مريب، خصوصاً في ظل انشغال العالم بالحرب في غزة وتداعياتها.
هدف استعماري توسعي
التحذير الأممي يشير إلى “معاناة لا يمكن تصورها”، وهي عبارة ليست محايدة، بل تعبّر عن حجم الكارثة التي تتكشف تدريجياً، حيث يُهجّر مئات الآلاف من بيوتهم، ويُحاصر المدنيون بلا ماء أو دواء أو طعام، وتُدمّر البنى التحتية الأساسية بشكل ممنهج، من مستشفيات ومدارس ومنازل، في انتهاك واضح لكل القوانين الإنسانية.
في المقابل، يبرز استخدام واضح للخطاب الأمني من قبل إسرائيل كمظلّة لممارسة أفعال لا يمكن تبريرها عسكرياً، مثل التهجير القسري الجماعي وهدم المنازل ومصادرة الأراضي، وكلها سياسات تسير ضمن مشروع أكبر له طابع استيطاني إحلالي. اللجنة لم تكتفِ بوصف الوضع، بل اتهمت صراحة الحكومة الإسرائيلية بأن هدفها ليس أمنياً فقط، بل استعمارياً توسعياً، يستبدل السكان الفلسطينيين بالمستوطنين اليهود.
التصعيد في اللهجة
الأخطر في الأمر أن التحذير من “نكبة جديدة” لا يأتي فقط من جهة فلسطينية أو عربية، بل من لجنة أممية تأسست منذ 1968، ما يمنح هذه التصريحات شرعية دولية ثقيلة. ورغم أن الأمم المتحدة نفسها ليست قادرة، عملياً، على وقف العدوان، فإن هذا التصعيد في اللهجة قد يُستثمر مستقبلاً في مسارات قانونية، مثل محكمة الجنايات الدولية، أو حتى في ضغط سياسي متزايد على الدول الغربية التي تدعم إسرائيل أو تغض الطرف عن انتهاكاتها.
الفلسطينيون اليوم يعيشون حالة تشبه، بل تفوق من حيث الوحشية، ما عاشوه قبل أكثر من سبعة عقود، حيث لم يكن العالم وقتها يمتلك الأدوات القانونية والرقابية التي يملكها الآن. ومع ذلك، فإن النكبة تتكرر، ولكن أمام عيون مفتوحة وصامتة في الوقت ذاته.
جرس إنذار
الخطاب الإسرائيلي الرسمي يُظهر تجاهلاً صارخاً لكل هذه التحذيرات، بل يتمادى في تأطير الحرب على أنها “دفاع عن النفس”، وهو ما يضاعف من احتمالات استمرار هذا المسار الكارثي. لكن الأهم هو أن تحذير الأمم المتحدة أعاد وضع القضية الفلسطينية في مركز الاهتمام الدولي من بوابة الحقوق الإنسانية والجرائم الجماعية، وليس فقط من زاوية الصراع السياسي.
في خلاصة الأمر، تقرير اللجنة الأممية يُعد جرس إنذار عالياً بأن ما يحدث في فلسطين ليس مجرد تصعيد أو أزمة مؤقتة، بل مقدمة لكارثة كبرى قد يعجز المجتمع الدولي عن إصلاح نتائجها لاحقاً. و”النكبة الجديدة”، إن وقعت فعلاً، لن تكون فقط وصمة عار أخلاقية على جبين العالم، بل دليلاً دامغاً على فشل النظام الدولي في حماية أبسط حقوق الإنسان.