يشكّل الموقف الأممي الأخير إدانة واضحة وصريحة للكارثة الإنسانية التي تشهدها غزة، ويعكس حجم القلق المتصاعد داخل مؤسسات الأمم المتحدة إزاء التصعيد المستمر وتداعياته المأساوية على المدنيين. في تصريحات حملت لغة غير مسبوقة من التحذير، وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش ما يجري في غزة بأنه “مروع”، معبّرًا عن قلقه من “مستوى من الموت والدمار لا مثيل له في الآونة الأخيرة”، معتبراً أن هذا الوضع يهدد أبسط شروط الكرامة الإنسانية ويضرب في صميم القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
تحويل المدنيين إلى أهداف
جوتيريش، الذي أعاد تأكيد دعوته إلى وقف فوري لإطلاق النار، أشار بوضوح إلى أن إنهاء العمليات العسكرية يجب ألا يكون هدفًا في حد ذاته، بل مقدمة لحل سياسي شامل يقوم على قرارات الشرعية الدولية، ويضمن للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء العيش في دولة يتمكنون فيها من ممارسة حقوقهم. هذه الإشارة تمثل تذكيراً بإطار حل الدولتين، الذي بدأ يتآكل على وقع الحرب والاحتلال والتهجير، والذي سيُعاد طرحه في مؤتمر دولي مقرر انعقاده خلال يوليو الجاري، وفق ما أعلنه الأمين العام نفسه.
في السياق ذاته، تسلّط التصريحات المتواترة من هيئات أممية أخرى الضوء على الانتهاكات الممنهجة التي تستهدف المدنيين، لا سيما الأطفال والنساء، تحت وطأة الحصار والقصف. المديرة التنفيذية لليونيسف كاثرين راسل عبّرت عن صدمتها من مقتل سبعة أطفال أثناء وقوفهم في طابور للحصول على الماء، مطالبة إسرائيل بمراجعة عاجلة لقواعد الاشتباك والامتثال الصارم للقانون الإنساني الدولي، مشددة على ضرورة حماية المدنيين وعدم تحويلهم إلى أهداف.
التجويع المنهجي
هذه الحادثة لم تكن الأولى من نوعها، إذ سُجلت خلال الأيام القليلة الماضية عمليات قصف استهدفت طوابير الانتظار للحصول على الغذاء والماء، ما يُظهر، وفق راسل، نمطاً مقلقًا يتجاوز مجرد الأخطاء العملياتية نحو ما قد يُعد انتهاكاً متكرراً للالتزامات الدولية. مثل هذه الحوادث تعكس ما وصفته وكالات الأمم المتحدة بـ”التجويع المنهجي” للمدنيين، في ظل تقارير تؤكد أن سكان غزة باتوا يعانون من انعدام شبه تام في الأمن الغذائي، في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية عالميًا.
وفي سياق موازٍ، وجه المفوض العام لوكالة الأونروا فيليب لازاريني تحذيرًا لافتًا، مشيرًا إلى أن ما يحدث ليس مجرد دمار عشوائي، بل “تهجير قسري ممنهج”، و”عقاب جماعي” يطال سكان غزة والضفة الغربية على حد سواء. وتأتي هذه التصريحات في وقت تتحدث فيه الأونروا عن تسارع عملية الضم في الضفة الغربية، بما يشكّل تجاوزاً فاضحاً للقانون الدولي، ويعزز المخاوف من تقويض حل الدولتين بشكل كامل.
أسس القانون الدولي
المواقف الأممية المتلاحقة تكشف عن فجوة عميقة بين الخطاب الدولي وبين الإجراءات الفعلية على الأرض. ففي الوقت الذي تؤكد فيه الأمم المتحدة أن استمرار الحرب يضرب أسس القانون الدولي، تبدو أدواتها في التأثير على مجريات الأحداث محدودة للغاية، الأمر الذي يعزز شعور سكان غزة بأن المجتمع الدولي يكتفي بالإدانة بينما تستمر معاناتهم اليومية تحت نيران الحرب والحصار.
وفي ضوء هذه المعطيات، فإن الإشارات المتكررة إلى القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة لم تعد كافية بمفردها، ما لم تترافق مع خطوات ملموسة تضع حداً للعقاب الجماعي وتعيد الاعتبار لحقوق الفلسطينيين الأساسية في الحياة، والأمن، والكرامة، وفي تقرير مصيرهم بعيداً عن الاحتلال والتهجير. فالنداءات وحدها لا توقف القصف، ولا تُطعم الجائعين، ولا تُنقذ الأطفال الذين يسقطون واحدًا تلو الآخر وهم ينتظرون قطرة ماء أو لقمة خبز.