في أحدث فصول التعدي على التراث الإسلامي والمسيحي في القدس المحتلة، أقدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على اعتداء مباشر بحق أحد المعالم التاريخية البارزة الملاصقة لأسوار المسجد الأقصى المبارك، مستهدفةً “باحة الشهابي” الواقعة بجوار باب الحديد، إحدى البوابات المؤدية إلى الحرم القدسي الشريف.
اعتداء على التاريخ والهوية
تُعد باحة الشهابي من المعالم العمرانية والدينية العتيقة التي تعود إلى الحقبة المملوكية، وتحمل في طياتها قيمة تاريخية موثقة ومعروفة لدى أهل القدس وعموم الفلسطينيين. الموقع ليس فقط إرثاً معمارياً، بل يمثل جزءاً من النسيج الثقافي والديني للبلدة القديمة، المصنّفة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو.
لكن سلطات الاحتلال، في إطار مشروعها التهويدي المتواصل، بدأت بأعمال توسعة في مدخل الباحة، مدعية وجود امتداد لما يُسمى بـ”الحائط الغربي” في هذا المكان. الهدف المعلن: تحويل الموقع إلى “مكان صلاة يهودي”، وهو ما ترفضه كافة المؤسسات الفلسطينية وتعتبره اعتداء سافراً على الوضع التاريخي والديني القائم.
التهويد الزاحف: مخطط “القدس الكبرى”
ما يجري في باحة الشهابي لا يمكن عزله عن السياق الأوسع لما تسميه حكومة الاحتلال بـ”مشروع القدس الكبرى”، وهو مخطط استيطاني استعماري طويل الأمد يسعى إلى إعادة تشكيل هوية المدينة المقدسة، وفصلها عن عمقها العربي والإسلامي. يتضمن هذا المخطط خطوات متسارعة للاستيلاء على أراضٍ، وهدم مبانٍ فلسطينية، وتوسيع مستوطنات، فضلاً عن التلاعب بالمعالم الدينية والتاريخية لتثبيت رواية يهودية أحادية للمدينة.
المعالم الوقفية الإسلامية، مثل باحة الشهابي، تقع ضمن ما يُعرف بـ”الحوض المقدس”، وهي منطقة مستهدفة بشكل خاص من قبل سلطات الاحتلال، سواء عبر مصادرة الأراضي، أو أعمال الحفر التي تهدد أساسات المسجد الأقصى، أو التعدي على المباني المحيطة به لتحويلها إلى مرافق سياحية أو دينية للمستوطنين.
وصاية هاشمية تُنتهك… ورسائل سياسية
الاعتداء الأخير ليس مجرد انتهاك عقاري، بل هو تحدٍ صريح للوصاية الأردنية الهاشمية على المقدسات في القدس، والتي تُعد مرجعية قانونية ودينية متفقًا عليها إقليميًا ودوليًا. تخطي الاحتلال لهذه المرجعية يكشف نواياه المبيتة لتقويض أي دور عربي في المدينة، وتكريس سيادة أحادية على الحرم القدسي الشريف.
من جانبها، أكدت محافظة القدس أن الروايات التي تسوقها إسرائيل حول “امتدادات الحائط الغربي” في باحة الشهابي لا تستند إلى أي أساس علمي أو أثري. وهي، بحسب ما جاء في بيان المحافظة، “مجرد ذرائع مكشوفة لتبرير التعدي على المقدسات الإسلامية والمسيحية وممتلكات السكان المقدسيين”.
خطر الانهيار المادي والانفجار الشعبي
أعمال التجريف والتوسعة الجارية حاليًا لا تهدد فقط الإرث الثقافي للمنطقة، بل تنذر بوقوع انهيارات في البنية المعمارية للباحة، التي لم تُصمم لتتحمل هذا النوع من التدخلات. وتأتي هذه التهديدات في وقت تشهد فيه القدس القديمة توتراً متصاعداً بسبب السياسات الإسرائيلية، ما ينذر بانفجار شعبي إذا استمرت الاعتداءات.
محافظة القدس شددت على أن التواطؤ المكشوف بين بلدية الاحتلال وشرطة الاحتلال في هذه الجريمة لا يمكن فصله عن سياسة رسمية ممنهجة تسعى إلى تهويد المدينة بكل السبل. واستنكرت المحافظة صمت المجتمع الدولي، الذي “يغض الطرف عن الانتهاكات اليومية بحق المعالم الدينية والمواطنين المقدسيين”، بحسب البيان.
دعوات لتدخل عاجل من اليونسكو والمجتمع الدولي
طالبت محافظة القدس، في ختام بيانها، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بتحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية، والتدخل العاجل لحماية المعالم الأثرية المدرجة ضمن التراث العالمي، والتي تُعتدى عليها يوميًا من قبل سلطات الاحتلال.
كما وجهت نداءً للدول العربية والإسلامية، للتصدي لمحاولات تهويد البلدة القديمة، والتأكيد على الطابع العربي الإسلامي للقدس، وضرورة صون هوية المدينة ومقدساتها من التلاعب السياسي والديني الذي تمارسه إسرائيل.
باحة الشهابي: أكثر من مجرد حائط
الاعتداء على باحة الشهابي ليس حدثًا عابرًا أو تفصيلاً صغيرًا في خريطة الانتهاكات، بل هو مؤشر على سعي حثيث لتجريد المدينة من عمقها التاريخي، وتحويل الأماكن الوقفية الإسلامية إلى أدوات في مشروع استيطاني يهدف لإعادة رسم ملامح المدينة بالكامل.
وفي ظل هذا التصعيد، يبقى السؤال معلقًا: إلى متى سيستمر المجتمع الدولي في الاكتفاء بإصدار بيانات القلق، فيما تواصل سلطات الاحتلال قضم ما تبقى من هوية القدس، حجرًا تلو آخر؟