تحوّل المسجد الأقصى إلى ساحة اشتباك ديني وسياسي مفتوح، ليس فقط بين الفلسطينيين والمستوطنين، بل بين ما تبقّى من شرعية للقانون الدولي وما بات فعليًا نظامًا عالميًا صامتًا، إن لم يكن متواطئًا. اقتحام عشرات المستوطنين لباحات المسجد الأقصى صباح اليوم، بحماية مشددة من قوات الاحتلال، لم يكن حادثًا منفردًا أو طارئًا، بل استمرارًا لسياسة منهجية تهدف إلى فرض سيادة إسرائيلية فعلية على أحد أقدس مقدسات المسلمين، تمهيدًا لتغيير الواقع الديني والتاريخي والقانوني القائم فيه.
إرهاب مزدوج” يُمارس على المدنيين
ما جرى اليوم، من جولات استفزازية وطقوس تلمودية في المنطقة الشرقية من المسجد، لم يكن ليحدث دون غطاء سياسي وأمني كامل من حكومة الاحتلال، التي باتت تُشرعن اقتحام الأقصى وتسهّله، بل وتشجعه. والأسوأ من ذلك أن سلطات الاحتلال تقابل هذا الاقتحام بفرض تضييقات قمعية على المصلين الفلسطينيين: احتجاز هويات، منع دخول، وتشديد أمني عند البوابات. هكذا يتحوّل حق العبادة إلى “امتياز مهدد”، يُمنح أو يُسحب بحسب هوية المُصلي، في مشهد يعكس ميزان قمع فجّ يضرب عمق مفهوم الحرية الدينية في المدينة المقدسة.
هذا التصعيد في القدس ليس معزولًا، بل يتزامن مع عملية تهويد شاملة في الضفة الغربية، حيث تتصاعد الهجمات الاستيطانية على القرى والبلدات الفلسطينية، كما هو الحال في خلة الضبع، ومسافر يطا، وسنجل، وغيرها من المناطق التي تواجه يوميًا عنفًا مركبًا من المستوطنين والجيش معًا. ما نشهده فعليًا هو استراتيجية “إرهاب مزدوج” يُمارس على المدنيين الفلسطينيين في الضفة: يُهجّرون من قراهم، تُهدم بيوتهم، ويُلاحقون في أراضيهم الزراعية، بينما يُمنع المتضامنون من الاقتراب، وتُغلق المناطق باعتبارها “عسكرية”.
ازدواجية المعايير
أما السؤال الأكثر إلحاحًا: لماذا يصمت العالم؟ لماذا لم تتحرك الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن ولا حتى الدول التي تتغنى ليل نهار بحقوق الإنسان؟ الإجابة المؤلمة أن القانون الدولي لم يمت فقط في غزة، بل يُدفن يوميًا في القدس والخليل ورام الله ونابلس. لم تعد قرارات الشرعية الدولية أكثر من حبر باهت على ورق صدئ، أمام هيمنة سياسية دولية تُدير مصالحها بمعزل تام عن المبادئ.
إن ازدواجية المعايير في التعامل مع الجرائم الإسرائيلية باتت من الوقاحة بحيث لم تعد تُخجل أحدًا. ففي حين تُشنّ العقوبات على دول وتحشد التحالفات الدولية من أجل ملف هنا أو قضية هناك، يُقتل الفلسطيني، ويُهدم منزله، ويُقتحم أقصاه، بلا أن يصدر أكثر من “قلق دولي” باهت لا يمنع رصاصة ولا يُوقف جرافة.
كسر متعمد لكرامة الأمة
النتيجة أن إسرائيل تشعر بأنها فوق القانون، بل خارجه بالكامل، ما دامت تملك دعمًا سياسيًا غربيًا مفتوحًا، وسكوتًا عربيًا مخزيًا، وعجزًا أمميًا متواصلًا. والمفارقة أن صمود الشعب الفلسطيني، في ظل هذا الظرف التاريخي القاسي، لا يثبت فقط حقه في المقاومة، بل يكشف هشاشة كل الخطابات الدولية عن العدالة وحقوق الإنسان.
اقتحام الأقصى ليس فقط انتهاكًا لمكان مقدّس، بل كسر متعمد لكرامة أمة بأكملها، ورسالة سياسية بامتياز: أن الاحتلال مستمر، لا يحترم حرمة ولا مواثيق، وأنه قادر على فرض وقائع جديدة بالقوة، ما لم يوجد من يقف في وجهه.
وحتى ذلك الحين، سيبقى المسجد الأقصى عنوانًا للاشتباك المفتوح، وصوت الأذان فيه مقاومة، وخطوات المصلين نحو بواباته بطولة يومية، في زمن قرر فيه العالم أن يصمّ أذنه، ويغلق عينيه… إلا عن مصالحه.