في الوقت الذي ما زالت فيه غزة تُقصف وتُحاصر، بدأت ملامح تحول دولي هادئ لكن جوهري في التعامل مع القضية الفلسطينية. الاعتراف المتزايد بدولة فلسطين من عدد متنامٍ من الدول ليس مجرد إجراء رمزي أو بروتوكولي، بل يعكس تحولاً في المزاج السياسي الدولي، وكأنّ هناك اعترافاً ضمنياً بأن مسار التفاوض التقليدي الذي كانت ترعاه الولايات المتحدة لعقود قد فشل، وبأن هناك حاجة لإعادة صياغة قواعد اللعبة.
التحرك العملي نحو الاعتراف بدولة فلسطينية
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بخطابه الأخير، لم يخرج عن حدود السياسة الفرنسية المعروفة تقليدياً بدعم حل الدولتين، لكنه أضاف عنصراً جديداً: الرغبة الواضحة في التحرك العملي نحو الاعتراف بدولة فلسطينية. التحول هنا يكمن في “الفعل”، لا “القول”. ففرنسا، إلى جانب السعودية، تستعد لاستضافة مؤتمر دولي في نيويورك منتصف يونيو، يُفترض أن يُعيد الزخم لفكرة الحل السياسي، لا فقط بوصفه حلماً، بل كمسار “لا رجعة فيه”، كما ورد في البيان المشترك الفرنسي الإندونيسي.
الاعترافات المتزايدة، سواء من دول أوروبية أو من أمريكا اللاتينية أو إفريقيا، تشير إلى أن العالم لم يعد مستعداً للوقوف مكتوف الأيدي بينما تُرتكب مجازر، وتُقبر فرص السلام، ويُقتل الأمل في عيون الأجيال الفلسطينية الجديدة. الاعترافات هذه تحمل دلالة ثلاثية الأبعاد: قانونية، سياسية، وأخلاقية.
وقف الاستيطان وإنهاء الاحتلال
من الناحية القانونية، تعزز هذه الاعترافات من مركز فلسطين ككيان سياسي معترف به دولياً، وتمنحها مساحة أوسع في المؤسسات الدولية، بما فيها المحاكم، والمنظمات التابعة للأمم المتحدة. ومن الناحية السياسية، تضع إسرائيل أمام مأزق متنامٍ، حيث تجد نفسها في عزلة دولية متزايدة، حتى بين حلفائها، مع تراجع الصبر الغربي على حكومة يمينية متطرفة تُصر على نهج العنف والضم. أما من الناحية الأخلاقية، فهي رسالة إلى الشعوب قبل الحكومات: هناك ظلم تاريخي لا يمكن القبول باستمراره.
لكن، رغم هذا الزخم، يظل الطريق نحو دولة فلسطينية حقيقية مليئاً بالعقبات. الاعترافات وحدها لا تصنع الدولة، بل تحتاج إلى ترجمة ميدانية: وقف الاستيطان، إنهاء الاحتلال، واستعادة وحدة الصف الفلسطيني. من هنا تأتي أهمية التحرك الدولي المنظم والمستمر، القائم على مبدأ “الضغط من القاعدة إلى القمة”، أي عبر تحركات دبلوماسية من الدول، وجهود قانونية في المحاكم الدولية، واعترافات برلمانية شعبية، إضافة إلى تفعيل حملات المقاطعة الاقتصادية والثقافية التي تحاصر منظومة الاحتلال من زوايا متعددة.
فرنسا والسعودية، عبر مؤتمرهما المرتقب، تمثلان نموذجاً لتحالف دبلوماسي جديد يُحاول إعادة تعريف مبادرة السلام بعيداً عن الطابع الأمريكي التقليدي. فرنسا، بوصفها لاعباً أوروبياً مركزياً، يمكنها تحريك الموقف الأوروبي الرسمي المترنح، بينما تمثل السعودية مفتاحاً للعالمين العربي والإسلامي، وقدرتها على التأثير في تحالفات التطبيع الإقليمي كبيرة.
المسار الحقيقي نحو حل الدولتين
الأهم من ذلك، أن الاعتراف الدولي بفلسطين لا يجب أن يُقدّم كـ”هدية مشروطة” مقابل ضمانات أمنية لإسرائيل، بل كحق قانوني أصيل غير قابل للمساومة. كلما زادت الدول التي تعترف بفلسطين، كلما أضعفت “الفيتو السياسي” الذي لطالما عطّل قيام الدولة الفلسطينية، وسمح لإسرائيل بمواصلة الاحتلال دون محاسبة.
إذا أراد المجتمع الدولي فعلاً إنهاء الصراع، فعليه أن يتوقف عن إدارة الأزمة، ويبدأ في فرض الحل. الاعتراف بدولة فلسطين ليس نهاية الطريق، لكنه بداية المسار الحقيقي نحو حل الدولتين.. الحل الذي بات مهدداً بالاندثار، في الوقت الذي تتزايد فيه الحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى.