شهدت مدينة القدس الشرقية خلال الشهر الماضي سلسلة من الاعتقالات التي طالت عددًا من الفلسطينيين، معظمهم من فئة الشباب، على خلفية اتهامات تتعلق بـ”التحريض” على وسائل التواصل الاجتماعي أو “دعم منظمات إرهابية”، بحسب الوصف القانوني المستخدم من قبل سلطات الاحتلال. وتأتي هذه التطورات في ظل تصعيد واضح في أدوات المراقبة والرصد التي تطال الحياة الرقمية للفلسطينيين في المدينة، ما يثير تساؤلات متزايدة حول حدود حرية التعبير والمعايير التي تُستخدم لتجريم الخطاب.
في جو عام يتسم بالتوتر المزمن، تحوّلت المنصات الرقمية إلى مساحة مراقبة نشطة، حيث لم يعد ما يُنشر في الفضاء الافتراضي معزولًا عن العواقب الميدانية. فقد وثّقت منظمات حقوقية حالات اعتقال استندت إلى منشورات قد تبدو عادية في سياقات أخرى: صورة، أغنية، أو حتى تفاعل رمزي مع حدث سياسي. هذا التحول في النظرة إلى المحتوى الرقمي يعكس توجّهًا أمنيًا نحو اعتبار الإنترنت امتدادًا ميدانيًا للمواجهة، لا مجرد فضاء للتعبير.
ما يثير الانتباه في هذه الحملة هو الغموض الملازم لتعريف “التحريض”. فالمصطلح المستخدم قانونيًا لا يتمتع بحدود واضحة، الأمر الذي يسمح بتأويل واسع لمضمونه، ويجعل من التعبير الشخصي خاضعًا لقراءة أمنية قد تتغيّر وفقًا للظرف السياسي أو الجهة المتلقية. وفي حالات كثيرة، لم تتضمن المنشورات المستهدفة أي دعوة صريحة للعنف، وإنما كانت تعبيرات ثقافية أو وطنية يمكن تفسيرها بطرق متعددة. هذه الهشاشة في التفسير تُنتج، بحكم الواقع، حالة من التوجس بين السكان، وتدفع بالكثيرين إلى ممارسة الرقابة الذاتية تجنبًا للمساءلة.
المناخ السائد في القدس الشرقية يعكس وضعًا قانونيًا خاصًا ومعقدًا. فالمدينة، التي تعتبرها إسرائيل “موحدة” تحت سيادتها، لا تزال في نظر القانون الدولي أرضًا محتلة، ما يجعل من الإجراءات الأمنية المتّخذة ضد السكان الفلسطينيين محط جدل متكرر. في هذا السياق، تبدو الاعتقالات الأخيرة غير منفصلة عن البعد الرمزي للقدس، كمدينة تحمل في تفاصيلها أكثر من مجرد طابع سكاني أو إداري. فكل تعبير يُطلق في فضائها، وكل إشارة رمزية، تقرأها المؤسسة الأمنية في ضوء التوازنات السياسية التي تحكم العلاقة بين الطرفين.
ورغم أن سلطات الاحتلال تبرر هذه السياسات بأنها تهدف إلى الوقاية من التحريض على العنف، إلا أن الطريقة التي تُنفذ بها هذه الإجراءات قد تعكس في الوقت ذاته مسعى للحد من الحضور الرمزي والسياسي للفلسطينيين في المدينة. فليس خافيًا أن التعبير عن الهوية الوطنية، ولو بطرق سلمية، أصبح محل تدقيق وربما ملاحقة، خصوصًا حين يتعلق الأمر بجيل شاب أكثر انخراطًا في العالم الرقمي، وأقل تمسكًا بقواعد الحذر التقليدية.
الآثار المترتبة على هذه السياسات لا تقتصر على البُعد القانوني فقط، بل تمتد إلى المشهد الاجتماعي والنفسي داخل المجتمع المقدسي. فالخوف من الملاحقة بات يدفع الكثيرين، خاصة الشباب، إلى الانسحاب من الفضاء العام الرقمي، أو إعادة صياغة مواقفهم بلغة أقل وضوحًا، ما يؤدي إلى إضعاف النقاش العام، وتحجيم إمكانات التفاعل السياسي السلمي. لم تعد المسألة تتعلق بحرية التعبير في مفهومها النظري، بل بتحول تدريجي في السلوك الجمعي، حيث يصبح الصمت خيارًا أكثر أمانًا من الرأي.
هذا الواقع المعقّد يفرض تحديات على مستوى الحقوق الفردية، وعلى العلاقة بين الدولة والمجتمع. ففي غياب معايير شفافة ومحددة تُبيّن ما يُعد تحريضًا وما يُعد تعبيرًا مشروعًا، تبقى المساحة بين الحالتين منطقة رمادية تُمكن الجهات الأمنية من اتخاذ قرارات قد تكون محل جدل قانوني وأخلاقي. وبالنظر إلى التاريخ الطويل للصراع في القدس، فإن كل خطوة قانونية تأخذ بعدًا سياسيًا، حتى وإن كانت مدفوعة بحسابات أمنية.
في نهاية المطاف، تبدو معادلة “الأمن مقابل الحرية” مجرد ذريعة تُستخدم لتبرير المزيد من التضييق على الفلسطينيين، لا سيما في القدس الشرقية، حيث أصبح التعبير عن الرأي، ولو ضمن الحدود الرمزية، عرضة للملاحقة والتأويل. غير أن هذا الواقع، بكل ما يحمله من ظلم، لا يُعفي الشباب الفلسطيني من مسؤولية إدراك حساسية اللحظة وأهمية الوعي بطبيعة الفضاء الرقمي الذي بات تحت الرقابة الدقيقة. فالمحتوى المنشور، حتى وإن بدا عفويًا أو عاطفيًا، قد يتحوّل إلى أداة تستخدمها سلطات الاحتلال لتبرير الاعتقال تحت مسمى “التحريض”. وهنا، لا تكمن الخطورة فقط في عدد المعتقلين أو التهم المسجّلة، بل في حالة الصمت الطوعي التي بدأت تتسلل إلى الخطاب العام، نتيجة الخوف من الملاحقة أو إساءة الفهم. الحفاظ على الصوت الفلسطيني لا يعني بالضرورة المجازفة، بل يتطلّب اليوم وعيًا أكبر بكيفية التعبير، بما يحفظ الحق دون أن يمنح الاحتلال مزيدًا من الذرائع.