في ذروة واحدة من أكثر مراحل الحرب حساسية، تكشف الخلافات العلنية داخل الحكومة الإسرائيلية بشأن مشروع «المدينة الإنسانية» عن تصدعات عميقة في قلب المؤسسة السياسية والعسكرية، تنذر ليس فقط بإرباك عملية صنع القرار، بل بتقويض جدية إسرائيل في المفاوضات الجارية لوقف إطلاق النار، فضلاً عن كشفها حجم التوتر الداخلي المتفاقم في إدارة الأزمة.
مشروع «المدينة الإنسانية»، الذي طُرح ظاهريًا باعتباره حلاً إنسانيًا لتجميع النازحين الفلسطينيين من رفح وجنوب قطاع غزة، أضحى اليوم عنوانًا صريحًا لحالة من الانقسام غير المسبوق بين أطراف الحكم في تل أبيب. في الوقت الذي يدفع فيه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومعه وزير الدفاع يسرائيل كاتس نحو تنفيذ الخطة، بدعوى تنظيم أوضاع مئات آلاف النازحين، يتصاعد الرفض من جانب الجيش، ومن وزارات مدنية ومالية، وصولاً إلى انتقادات لاذعة من ساسة سابقين، في مقدمتهم إيهود أولمرت.
غضب سياسي في إسرائيل
إعلان كاتس عن بدء الجيش في وضع خطط لبناء المخيم، ونية نقل 600 ألف فلسطيني في المرحلة الأولى، تكشف عن رؤية أمنية صلبة تتعامل مع المدنيين الفلسطينيين كأعباء لوجستية يجب ترحيلها إلى منطقة مغلقة، محصورة بين الحدود المصرية وممر عسكري إسرائيلي، في مشهد وصفه أكثر من مسؤول فلسطيني ودولي بأنه أشبه بـ«غيتو معزول». وفيما وُجهت انتقادات واسعة لتلك الرؤية، جاءت تصريحات أولمرت لتفجّر عاصفة سياسية داخلية، بعد أن شبّه المخيم بـ«معسكر اعتقال»، محذرًا من أن فرض الانتقال القسري إلى هذا التجمع سيكون بمثابة «تطهير عرقي».
لم تكن الردود أقل حدة. فبعض الوزراء، على غرار وزير التراث عميخاي إلياهو، ذهب حدّ المطالبة بسجن أولمرت، مستغلين خلفيته الجنائية السابقة، وهو ما يعكس ليس فقط استقطابًا سياسيًا داخليًا، بل أيضًا محاولة لتكميم أي معارضة داخلية تتحدى السردية الحكومية. مع ذلك، لم تنجح هذه الحملات في كتم الخلافات، بل زادها تفاقمًا إعلان الجيش نفسه رفضه العلني للمشروع، رغم امتثاله للأوامر. رئيس الأركان إيال زامير اشتبك مع نتنياهو خلال اجتماع «الكابنيت» الأمني، مؤكداً أن المشروع سيؤدي إلى تحويل موارد الجيش عن أولوياته القتالية، ويقوض جهود تحرير الرهائن، ويخالف أهداف الحرب المعلنة.
استنزاف كبير لميزانية إسرائيل
تزايد الانتقادات من داخل المؤسسة العسكرية يفتح الباب على تساؤلات جوهرية تتجاوز المشروع ذاته، لتصل إلى عمق العلاقة بين القيادة السياسية والجيش، التي تبدو مشروخة أكثر من أي وقت مضى. فالجيش يرى أن المخطط لا يمتلك جدوى استراتيجية، ويخشى من الزج به في تنفيذ أوامر قد تصنّف دوليًا كجرائم حرب. وفي خلفية هذا التوتر، يبرز التماس قانوني قدمه جنود احتياط ضد المخطط، ما يؤشر إلى قلق متنامٍ داخل صفوف الجيش نفسه.
إلى جانب ذلك، تواجه الحكومة انتقادات داخلية من جهات مالية وفنية. وزارة المالية حذرت من كلفة المشروع الباهظة، التي تُقدّر بنحو 15 مليار شيكل سنويًا، وهو ما يعني استنزافًا كبيرًا لميزانية الدولة، على حساب قطاعات حيوية كالتعليم والصحة. ومع ذلك، بدا نتنياهو متجاهلًا لكل تلك الاعتراضات، حين طالب بتسريع الجدول الزمني للمخطط وتقديم نسخة «أرخص وأسرع»، ما يدل على إصراره على تنفيذ المشروع بأي ثمن، حتى لو جاء على حساب الإجماع الداخلي.
غياب التوافق الإسرائيلي في إدارة الحرب
هذا المشهد المليء بالانقسامات ليس مجرد خلاف إداري أو تقني حول تنفيذ مشروع ما، بل هو مؤشر على أزمة قيادة أوسع تعصف بإسرائيل في لحظة مفصلية. إذ تتصرف القيادة السياسية بنزعة أحادية، تعلو فيها الحسابات الأيديولوجية والتكتيكات قصيرة المدى على اعتبارات القانون الدولي والمصالح الوطنية بعيدة المدى. وفي المقابل، يحاول الجيش وبعض الدوائر المدنية أن يكونوا صمام أمان، يحذر من تداعيات السياسات الانفعالية، التي قد تجرّ إسرائيل إلى مزيد من العزلة الدولية، وربما إلى فتح مسارات مساءلة قانونية في المستقبل.
تكشف قضية «المدينة الإنسانية» عن غياب التوافق الإسرائيلي في إدارة الحرب، وتضارب المصالح بين الجهات المدنية والعسكرية، وتنامي الشعور بالقلق من قرارات تتخذها القيادة السياسية تحت ضغوط داخلية وخارجية، دون تقدير كافٍ للعواقب الإنسانية والقانونية والأمنية. وبقدر ما تضع هذه الخلافات عراقيل إضافية أمام مفاوضات وقف إطلاق النار، فإنها في العمق تعكس أزمة قيادة تعاني من التآكل، وفقدان البوصلة، في وقت باتت فيه إسرائيل أحوج ما تكون إلى وضوح الرؤية ووحدة القرار.