تحت ضغوط الحرب المتواصلة منذ أكثر من 90 يومًا، وفي ظل تدهور إنساني غير مسبوق في قطاع غزة، تكشف أزمة المساعدات عن عمق الانقسام والتخبط داخل الحكومة الإسرائيلية، ليس فقط على مستوى الرؤية السياسية، بل في جوهر العلاقة بين الجيش والسلطة المدنية، وبين الأولويات الأمنية والاعتبارات الإنسانية التي باتت في مهب الريح.
رفض رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد، إيال زامير، مشاركة الجيش في توزيع المساعدات، لا يمكن فصله عن مخاوف أوسع لدى المؤسسة العسكرية من التورط في مسؤوليات إدارة مدنية مباشرة في قطاع غزة، وهي مهمة قد تُعرّض الجيش لمساءلة قانونية دولية، وتعيد إلى الذاكرة نموذج “الحاكم العسكري” الذي ارتبط بفترة الاحتلال المباشر قبل الانسحاب في 2005. هذه المخاوف تتقاطع مع إدراك عميق داخل الجيش أن التحول من “مقاتل” إلى “موزع مساعدات” يضعف من صورته ويعرّض أفراده لمخاطر أمنية وربما أخلاقية في الميدان، خاصة في ظل اتهامات دولية متزايدة بارتكاب جرائم حرب في غزة.
لكن في المقابل، نرى تيارًا سياسيًا يمينيًا متشددًا داخل الحكومة، يقوده وزراء مثل بتسلئيل سموتريتش وياريف ليفين، يدفع باتجاه فرض سيطرة كاملة على القطاع، بما في ذلك إدارة الحياة المدنية، ولو عبر “حكومة عسكرية مؤقتة”، وهو طرح يعكس النزعة الاستيطانية والفكر الإحلالي الذي يسعى لضم غزة فعليًا أو إعادة تشكيلها بما يخدم مصالح إسرائيل الأمنية والسياسية. تصريحات سموتريتش بضرورة احتلال القطاع وتطبيق “خطة ترامب”، تكشف عن رؤية تتجاوز حدود الحرب الحالية، إلى تصور استراتيجي طويل الأمد لإنهاء الوجود السياسي لحماس وخلق واقع فلسطيني مفصّل حسب مقاسات تل أبيب.
وفي خضم هذا الصراع، تبقى المعابر مغلقة منذ 2 مارس، والمساعدات ممنوعة من الدخول، رغم التحذيرات الأممية المتكررة بأن الوضع في غزة “هو الأسوأ على الإطلاق”. المجاعة تتهدد مئات الآلاف، والمياه الصالحة للشرب تكاد تنعدم، والمنشآت الطبية باتت غير قادرة على تقديم أي نوع من الخدمة. ومع ذلك، تواصل إسرائيل استخدام “سلاح الغذاء” كورقة ضغط سياسية، تُبقي القطاع تحت الخنق الكامل، بينما تماطل في اتخاذ أي قرار رسمي بشأن فتح المعابر.
هذا التخبط يعكس غياب رؤية استراتيجية متماسكة لإدارة الأزمة، ويفضح هشاشة التحالف الحكومي الذي لا يبدو متفقًا لا على أهداف الحرب ولا على اليوم التالي لها. فبين الجيش الذي يخشى التورط، واليمين المتطرف الذي يريد الهيمنة الكاملة، تقف غزة على شفا الكارثة، فيما يُستخدم الجوع كسلاح حرب، والإنسانية كورقة تفاوض.
الأزمة الإنسانية في غزة اليوم لم تعد مجرد “نتيجة جانبية” للحرب، بل أصبحت أداة مركزية في استراتيجيات الاحتلال، تُستثمر سياسياً وعسكرياً. ومن المؤكد أن استمرار هذا النهج لن يؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى، ويُعمّق العزلة الأخلاقية والسياسية التي باتت إسرائيل تعاني منها أمام الرأي العام الدولي.