شكل سقوط نظام بشار الأسد نقطة تحول مفصلية في المشهد السوري، لم تقتصر تداعياتها على الداخل، بل أعادت خلط أوراق القوى الإقليمية المتدخلة في سوريا، وفي مقدمتها تركيا. مع وصول أحمد الشرع إلى سدة الحكم، بدأت تتضح ملامح مرحلة انتقالية هشة، تحمل فرصًا وتحديات في آن واحد. وفي قلب هذه المرحلة، يبرز التدخل التركي في شمال سوريا كعامل حاسم في صياغة معادلة القوة المستقبلية.
منذ اللحظة الأولى لسقوط الأسد، أبدت أنقرة ارتياحاً واضحاً، بعدما تخلصت من عدو ظل لسنوات حجر عثرة أمام طموحاتها الإقليمية. لكن هذا الارتياح لم يتحول إلى انسحاب تركي أو تخفيف للوجود العسكري، بل العكس؛ إذ عززت تركيا قواعدها في الشمال، ورفعت من وتيرة التنسيق مع الفصائل السورية الموالية لها، في مسعى واضح لإعادة رسم حدود مناطق نفوذها بما يتلاءم مع التوازنات الجديدة.
الأهداف التركية ظلت متجذرة في اعتبارات الأمن القومي. فعلى الرغم من تغير القيادة السورية، لم تتخل أنقرة عن قلقها التقليدي من المسألة الكردية. تركيا تدرك أن الفوضى التي عادةً ما ترافق المراحل الانتقالية، قد تمنح قوات سوريا الديمقراطية فرصة ذهبية لتوسيع نفوذها أو فرض أمر واقع سياسي في الشمال الشرقي. لذلك كثفت أنقرة تحركاتها العسكرية والاستخباراتية لاحتواء أي محاولة كردية للتمدد أو للضغط على حكومة أحمد الشرع لعدم تقديم تنازلات سياسية للأكراد تتعارض مع الرؤية التركية.
على صعيد آخر، تسعى تركيا إلى توظيف علاقتها مع بعض الكيانات السورية الجديدة لتعزيز نفوذها السياسي. فهي تدرك أن حكومة الشرع، رغم محاولتها تقديم نفسها كجهة توافقية، بحاجة إلى دعم إقليمي للخروج من عزلتها الدولية وإدارة ملفات معقدة مثل إعادة الإعمار وعودة اللاجئين. وهنا تبرز أنقرة كطرف قادر على لعب ورقة اللاجئين السوريين، الذين يتجاوز عددهم الثلاثة ملايين على أراضيها، كورقة ضغط لفرض شروطها على النظام الجديد.
المعادلة الدولية أيضاً شهدت تحولات عميقة. مع تراجع النفوذ الإيراني نتيجة انهيار حليفها الرئيسي، وانشغال روسيا في ملفاتها الخاصة، تبدو الساحة مفتوحة أمام تنافس أمريكي-تركي على صياغة مستقبل سوريا. وفي هذا السياق، تحاول تركيا تثبيت مكاسبها الجغرافية، ليس فقط لتحصين حدودها، بل أيضاً لتأمين أوراق تفاوضية قوية أمام شركائها وخصومها الدوليين.
ومع كل ذلك، فإن التدخل التركي يواجه تحديات جدية. حكومة أحمد الشرع، رغم هشاشتها الأولية، تسعى إلى بسط سيادتها على كامل التراب السوري، مما يجعل من الوجود العسكري التركي في الشمال مسألة حساسة يمكن أن تتحول إلى مصدر توتر داخلي وإقليمي مع مرور الوقت. كما أن استمرار أنقرة في دعم كيانات محلية موازية قد يثير اتهامات بأنها تسعى إلى “احتلال ناعم” لأجزاء من سوريا.
في ضوء هذه المعطيات، يبدو أن أنقرة تراهن على إدارة دقيقة للمرحلة الانتقالية: من جهة تدعم استقرار النظام الجديد بما لا يمس مصالحها، ومن جهة أخرى تبقي أوراقها مفتوحة تحسباً لأي انتكاسات محتملة قد تعيد الفوضى إلى الساحة السورية.
في النهاية، فإن التدخل التركي في شمال سوريا، بعد سقوط نظام الأسد، دخل مرحلة جديدة تختلف جوهريًا عن المرحلة السابقة. هي مرحلة أكثر تعقيدًا، تتطلب من أنقرة توازناً حساساً بين حماية أمنها القومي، وتعزيز نفوذها، وعدم دفع النظام الجديد في دمشق إلى أحضان خصومها الإقليميين والدوليين.