لا شك أن ما كان يصعب تخيُّله، بات ممكناً في المشهد السياسي اللبناني في الشهور الأخيرة. لقد نصَّب لبنان رئيساً للجمهورية ورئيس وزراء جديدين، رغم الاعتراضات السابقة لحزب الله وحلفائه – وهو معسكر، ظل حتى أواخر العام الماضي يحتفظ بفيتو فعلي على جميع القرارات الرئيسية. أتت المرونة الجديدة التي يبديها “حزب الله” بعد سلسلة من الضربات الشديدة التي تلقاها في الحرب مع إسرائيل؛ إذ اغتيل أمينه العام، السيد حسن نصر الله وكبار قادته الآخرون، وقُتلت كوادره أو أصيبت إصابات بليغة، وهُجِّر الملايين من أنصاره من بيوتهم، التي تحوَّل كثير منها إلى ركام.
ينظر عدد من خصوم “حزب الله” إلى هذه اللحظة بوصفها فرصة ذهبية لتعزيز مكاسبهم السياسية. ويقترحون الدفع باتجاه نزع سلاح “حزب الله” بسرعة بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، بينما لا تزال خيارات الحزب لإبداء مقاومة عنيفة محدودة. كما يعتقدون أن “حزب الله” يخشى في الوقت الحاضر إطلاق جولة أخرى من حرب كارثية مع إسرائيل أو إثارة مشاكل قد تعيق تقديم ووصول المساعدات الخارجية لإعادة الإعمار بعد الحرب.
وقد يتبين أن هذه الحسابات دقيقة؛ إذ قد ينحني “حزب الله” مرة أخرى أمام الضغط، حتى في الوقت الذي يكون فيه مصير برنامجه العسكري على المحك. ولكن من ناحية أخرى، لطالما استمد “حزب الله” قوة سياسية وشرعية أيديولوجية من مقاتليه المسلحين وأسلحته. لقد أعلن الحزب أنه لن يسلِّم أصوله العسكرية شمال نهر الليطاني. ولا يصعب تخيُّل استمرار الحزب في وضع خط أحمر على مثل هذه المسألة – ولا سيما إذا شعرت قيادة الحزب بأنها محاصرة من قبل تحالف من القوى الداخلية والأجنبية.
يمكن أن يظل العنف خياراً بالنسبة لحزب الله، رغم وضعه الحرج. يدَّعي خصوم الحزب أن قاعدته الشعبية، التي ضعفت روحها المعنوية بسبب الحرب الكارثية، ستتجاهل إجمالاً أي دعوات للاحتشاد دفاعاً عن حزب الله بالقوة. ولكن قد لا تثبت صحة ذلك التوقع إذا تمكن قادة الحزب من توصيف الجهود الرامية إلى تقليص مكانة الحزب العسكرية على أنها جزء من حملة لإضعاف شيعة لبنان بشكل عام. لقد أشار مسؤولو “حزب الله” من قبل إلى أن جعل الحزب يتخلى عن قوته يرقى إلى تقويض المكاسب السياسية التي حققتها الطائفة الشيعية منذ سبعينيات القرن العشرين. ويمكن أن يعزز الحزب هذه الادعاءات إذا لم تُنهِ إسرائيل احتلالها لجنوب لبنان، أو إذا استمرت في ضرب أهداف في الأراضي اللبنانية، معتبراً إن الحكومة بحاجة لدعم “مقاومته” المسلحة.
هل تريد إسرائيل إبقاء الوضع الجنوبي مفتوح على كل الاحتمالات؟
يمكن أن يفقد حزب الله السيطرة على بعض المخلصين للحزب، الذين قد لا يستجيبون لمناشداته لضبط النفس. وفي شباط/فبراير أغلق المتظاهرون على نحو متكرر طريق مطار بيروت، في احتجاج غاضب على رفض الحكومة السماح بهبوط طائرات آتية من إيران في لبنان. تبقى المشاركة الرسمية لحزب الله في الاحتجاجات غامضة؛ ففي البداية، حمَّل مسؤوليتها لعناصر غير منضبطة، قبل أن يدعو لاحقاً إلى مظاهرات “سلمية”. في النهاية فرق الجيش اللبناني المتظاهرين بعنف، بعد أن هاجموا جنوداً وقافلة للأمم المتحدة.
يمكن أيضاً أن تكثر الاحتجاجات غير المنظمة في أعقاب اغتيال السيد حسن نصر الله. عندما كان نصر الله حياً، كانت قلة من الناس تشكّ في قدرته على إبقاء أنصاره وقيادة حزبه تحت السيطرة. لم يرسِّخ خليفته، نعيم قاسم، المستوى نفسه من النفوذ القيادي الذي بناه نصر الله على مدى عقود من القيادة الصارمة حتى الآن.
يجادل خصوم “حزب الله” أنه إذا رفض الحزب نزع سلاحه طوعاً، فإن الجيش اللبناني قادر على فعل ذلك بالقوة. على مدى عقود، بدا هذا الخيار غير واقعي بالمرة، إلى أن دمرت إسرائيل مؤخراً جزءاً كبيراً من أسلحة حزب الله. استناداً إلى هذا المنطق يعتقد البعض أن الجيش، مدعوماً بقيادة سياسية ملتزمة بإعادة فرض سلطة الدولة، يمكن أن يواجه “حزب الله” بثقة أكبر بكثير مما كان ممكناً من قبل.
لكن الحقيقة تبقى أن حزب الله بات أضعف، لكنه لم يدمَّر. من المرجح أنه كان لدى “حزب الله” عشرات آلاف الصواريخ قصيرة المدى قبل الحرب، وربما لا يزال كثير منها موجوداً – حتى لو كانت ادعاءات إسرائيل بأنها دمرت 80 بالمئة منها صحيحة. فقد الحزب آلاف المقاتلين، لكن عدداً كبيراً مما يقدر بـ 50,000 مقاتل (عامل واحتياط) لا يزالون موجودين. ولا يزال من الممكن لهذه الأصول العسكرية أن تشكل تهديداً مقلقاً للجيش. وبطبيعة الحال، هناك مخاوف من أن يتفكك الجيش على أسس طائفية، كما حدث عدة مرات خلال الحرب الأهلية اللبنانية، إذا رفض بعض الجنود الأوامر بالتحرك ضد الحزب.
من الصعب وضع تقدير دقيق لمدى إمكانية تحقق أي من هذه السيناريوات الخطيرة. وينبغي على قادة لبنان أن يمضوا قُدماً بالطريقة التي يرونها مناسبة لترسيخ السيادة الحقيقة للدولة، بما في ذلك على الأسلحة في البلاد. لكن أكثر المسارات أماناً سيكون العمل مع “حزب الله”، وليس ضده، بشأن نزع السلاح. يمكن للحكومة و”حزب الله” بناء الثقة بخطوات تدريجية صغيرة – ربما، على سبيل المثال، باستلام الجيش للأسلحة الثقيلة لاستعمالها، بدلاً من تدميرها. بمرور الوقت، يمكن أن تهدف مثل هذه المقاربة إلى إقناع “حزب الله” أن له مصلحة – مع جميع اللبنانيين الآخرين – في التوحُّد خلف دولة واحدة وجيش واحد.