التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية لا يمكن فصله عن السياق الأوسع للحرب المستمرة في قطاع غزة، ولا عن التطورات الإقليمية التي جعلت من الجبهة الفلسطينية برمّتها مسرحاً مستباحاً لعمليات عسكرية ممنهجة تتعدى نطاق “الرد الأمني” وتدخل في صلب استراتيجية توسعية تهدف إلى إعادة هندسة الواقع الجيوسياسي والأمني في الضفة.
اغتيال نور البيطاوي، قائد كتيبة جنين في حركة الجهاد الإسلامي، داخل مدينة نابلس، ليس عملية عسكرية معزولة، بل يأتي في سياق متصاعد من سياسة “القتل المُستهدف”، التي عادت إسرائيل لتوظيفها بقوة منذ أكتوبر 2023. وتوسيع العمليات في الضفة ليشمل نشر وحدات دبابات، كما حدث في جنين لأول مرة منذ الانتفاضة الثانية، هو مؤشر واضح على نية الاحتلال تصعيد الوضع إلى ما يشبه حالة الحرب المفتوحة، لكن بتكتيك “القطعة تلو الأخرى”، بحيث لا ينفجر الوضع دفعة واحدة، بل يُدار بشكل يُبقي السيطرة العسكرية بيد إسرائيل دون كلفة كبيرة في الرأي العام العالمي.
انتهاك القانون الدولي
لكن هذا التوسّع الإسرائيلي، على الرغم من تقديمه على أنه رد على نشاط الفصائل المسلحة، يخفي أهدافاً أعمق، أبرزها تفكيك أي بنية مقاومة في الضفة الغربية، خصوصاً في المناطق التي خرجت تدريجياً عن قبضة السلطة الفلسطينية. مدينة جنين ومخيمها تحديداً تحوّلا إلى مركز رمزي وفعلي للمقاومة الشعبية المسلحة، وهو ما تعتبره إسرائيل “نقطة اشتعال دائمة” تسعى إلى القضاء عليها باستخدام كل ما لديها من أدوات، بما في ذلك السلاح الثقيل، وهدم البنى التحتية، والتضييق على الحياة المدنية.
من الناحية السياسية، تستغل إسرائيل نشاط الفصائل المسلحة لتبرير عملياتها، وتوظّف ما تصفه بـ”خطر الإرهاب” لتبرير أي انتهاك للقانون الدولي، سواء في الاغتيالات أو التوغلات أو حتى العقوبات الجماعية. ولكن الحقيقة أن هذه العمليات ليست فقط استجابة أمنية، بل تسير ضمن مشروع أكبر يستهدف خلق واقع أمني جديد يمنع قيام أي كيان فلسطيني قابل للاستمرار، ويُجهِز على ما تبقى من أمل في “حل الدولتين”.
حملات تهجير قسري ناعمة
من جهة أخرى، فإن بعض نشاط الفصائل المسلحة، رغم مشروعيته من حيث مقاومة الاحتلال، يخدم الاحتلال من حيث الشكل. ففي ظل غياب القيادة الموحدة، والانقسام بين فصائل الضفة وغزة، تتحول بعض العمليات المسلحة إلى أعمال فردية أو فوضوية في توقيتات غير محسوبة، ما يوفّر لإسرائيل غطاءً مثالياً لتصعيد عملياتها، خاصة إذا استُهدفت مستوطنات أو طرق يستخدمها الجيش.
وهنا يكمن الخطر الأكبر: أن تتحوّل المقاومة إلى عنصر مفرّغ من الإستراتيجية، وتُستغل تكتيكياً من قبل الاحتلال كذريعة لتوسيع نطاق السيطرة، وفرض واقع استيطاني جديد، وشنّ حملات تهجير قسري ناعمة من خلال القصف والحصار والتضييق الاقتصادي. فالمشهد في جنين اليوم، كما نقلته عدسات الصحافة، يعكس حالة من الدمار الشامل والتهميش المدروس للبنية التحتية، كأن إسرائيل تعيد تطبيق ما جربته في غزة، ولكن بطريقة مجزأة وهادئة.
سياسات استعمارية أوسع
ومع استمرار الحرب في غزة، تزداد احتمالية أن تقوم إسرائيل بتوسيع المواجهة في الضفة الغربية كنوع من “توزيع الضغط”، وكأنها تقول: “كل مكان فيه مقاومة، سيكون تحت النار”. هذا التوجّه يُبقي الضفة في حالة غليان دائم، ما يهيئ الأرضية لحملة قمعية طويلة الأمد، سواء بوسائل أمنية مباشرة، أو عبر تمكين المستوطنين، الذين أصبحوا في كثير من الأحيان الذراع غير الرسمية للجيش الإسرائيلي في القرى والمناطق النائية.
الخطورة الكبرى تكمن في أن هذا التصعيد يأتي في ظل انشغال دولي بالحرب في غزة، ما يتيح لإسرائيل العمل في الضفة دون رقابة حقيقية. وحتى الإعلام العالمي، رغم تغطيته المتزايدة لانتهاكات الجيش في غزة، لا يولي الضفة الاهتمام الكافي، ما يجعلها ساحة مفتوحة للتصعيد تحت غطاء “عمليات موجهة ضد الإرهاب”.
في النهاية، ما يجري في الضفة ليس فقط رد فعل على نشاط فصائل المقاومة، بل هو جزء من خطة إسرائيلية متعددة الطبقات، تستهدف إلغاء أي مظاهر للسيادة الفلسطينية، وإعادة ترسيم الجغرافيا السياسية عبر القوة. المقاومة، من جانبها، مطالَبة اليوم ليس فقط بالرد، بل بإعادة صياغة أدواتها واستراتيجيتها لتفويت الفرصة على الاحتلال في استخدام هذه العمليات كمبرّر لسياسات استعمارية أوسع.