رغم محاولات التعتيم الإعلامي والتقليل من حجم الخسائر، تزداد يومًا بعد يوم مؤشرات الإنهاك التي يتعرض لها جيش الاحتلال الإسرائيلي في معاركه داخل قطاع غزة، خصوصًا في المناطق الملتهبة مثل حي الشجاعية ومخيمات رفح. الإعلان عن مقتل ضابطين إسرائيليين خلال معارك مباشرة، وإصابة آخرين بجراح متفاوتة الخطورة، هو مجرد قمة جبل الجليد الذي تحاول القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية إخفاءه عن الشارع الداخلي.
في تفاصيل الأحداث، نجد أن عملية مقتل الجنديين إيدو فولوخ ونتا يتسحاق كهانا لم تكن نتيجة اشتباك عابر، بل كانت ضمن كمين محكم أعدته المقاومة الفلسطينية، استخدمت فيه قذائف الآر بي جي كسلاح مضاد للدروع والمشاة، مما ألحق خسائر مضاعفة بالجيش خلال عمليات الإسناد والإنقاذ. هذه التفاصيل، التي تم الكشف عن بعضها في القنوات الإسرائيلية مثل “كان” وصحيفة “يديعوت أحرنوت”، تشير إلى مدى خطورة الميدان في غزة وتعقيد المواجهة مع الفصائل الفلسطينية.
ليس هذا فقط، بل إن تعرض الجنود الإسرائيليين لهجمات بالعبوات الناسفة في مخيم تل السلطان برفح، وإصابة عدد منهم بجروح خطيرة، يكشف عن مدى تكيّف المقاومة مع طبيعة المعركة وتحول غزة إلى ساحة استنزاف حقيقية للجيش الإسرائيلي، الذي طالما اعتبر من أكثر الجيوش استعدادًا للمواجهات البرية.
على الصعيد الأوسع، ومع تصاعد العمليات العسكرية، يواجه قادة الاحتلال تحديًا آخر لا يقل خطورة عن المواجهة الميدانية: غضب الشارع الإسرائيلي. استمرار الحرب على غزة دون تحقيق أهداف واضحة، خاصة مع بقاء الرهائن الإسرائيليين في قبضة المقاومة، يشعل حالة من الغليان الشعبي داخل إسرائيل. المظاهرات تتزايد، الضغوط على الحكومة تتصاعد، ومع كل خبر عن قتلى أو جرحى في صفوف الجيش، تزداد أصوات الانتقاد والمطالبة بوقف الحرب أو تغيير استراتيجياتها.
لهذا السبب، تتعمد القيادة الإسرائيلية تخفيف اللهجة عند إعلان خسائرها، وتتبنى خطابًا إعلاميًا يوحي بالسيطرة والإنجازات. الهدف هو احتواء الغضب الداخلي، ومنع تدهور الوضع السياسي أكثر مما هو عليه، خصوصًا وأن المجتمع الإسرائيلي يعيش حالة من الانقسام الحاد، في ظل اتهامات لحكومة نتنياهو بالفشل في إدارة الأزمة.
من جهة أخرى، جاءت الضربة اليمنية عبر إطلاق صاروخ باليستي نحو منطقة وادي عربة وشمال البحر الميت لتضيف بعدًا إقليميًا جديدًا على الأزمة. ورغم إعلان إسرائيل عن اعتراض الصاروخ بنجاح، إلا أن هذه الحادثة تعزز الشعور داخل إسرائيل بأن الحرب مع غزة أصبحت جزءًا من مواجهة إقليمية أوسع، وأن دائرة الخطر على إسرائيل باتت أوسع من غزة وحدها.
بالمحصلة، خسائر الجيش الإسرائيلي المتزايدة في غزة، ومعها تداعيات الصراع الإقليمي، تضع حكومة الاحتلال في مأزق عميق بين خيارين أحلاهما مر: إما الاستمرار في الحرب وتحمل كلفة بشرية وسياسية باهظة، أو التراجع والقبول بشروط قد يعتبرها الداخل الإسرائيلي هزيمة سياسية وعسكرية.
وفي كل الأحوال، فإن قطاع غزة أثبت مرة أخرى أنه ليس ساحة سهلة، بل هو فخ دموي يستنزف الاحتلال يوما بعد يوم، ويعيد رسم معادلات القوة في المنطقة بشكل قد لا تتمكن إسرائيل من التحكم بنتائجه على المدى القريب.