غزة تختنق، حرفياً. بين كل طلعة شمس وغروبها، تسقط العشرات من الشهداء، ويضاف المئات إلى قوائم المصابين، فيما يبقى أكثر من مليوني إنسان محاصرون بين ركام بيوتهم ومراكز إيواء لا تصلح للسكن الآدمي. ما تعيشه غزة اليوم ليس مجرد حرب، بل عملية ممنهجة لسحق الحياة، وتحويل القطاع إلى مساحة جرداء من الألم والدمار والجوع.
مجازر على أبواب مراكز توزيع المساعدات
في أقل من 24 ساعة فقط، استقبلت مستشفيات غزة 60 شهيداً و284 مصاباً. لكن هذه الأرقام، رغم فظاعتها، لا تُظهر سوى جزء صغير من المأساة. لأن هناك من يموت بصمت، جوعاً أو مرضاً، في بيته أو في الشارع، بعيداً عن عدسات الكاميرات وسجلات وزارة الصحة. المجازر لم تعد فقط من الجو، بل أصبحت تنتظر الفلسطينيين على أبواب مراكز توزيع المساعدات. في رفح، قُتل فلسطينيان وأصيب العشرات بينما كانوا يحاولون فقط الوصول إلى حصة غذاء.. إلى رغيف خبز.
الموت في غزة لم يعد يختار طريقة واحدة. البعض يُقصف من الطائرات، وآخرون يُقتلون برصاص القناصة، لكن الأكثر مأساوية هو من يموتون ببطء: طفل فقد وزنه، ثم حركته، ثم صوته، ثم أنفاسه. مرضى الكلى الذين يتوفون واحداً تلو الآخر لأن أجهزة غسيل الكلى توقفت، والدواء نفد، والكهرباء لا تصل، وأيادي الأطباء مقيدة.
منطقة منكوبة
بلدية خزاعة شرق خان يونس أعلنتها “منطقة منكوبة بالكامل”. البيوت سُويت بالأرض، لا ماء، لا كهرباء، لا طرق، لا مدارس ولا حتى مراكز صحية. السكان نزحوا، لكن إلى أين؟ إلى العراء، إلى الخيام إن وجدوها، إلى المجهول. لا أحد يعرف إن كان سيعيش حتى نهاية اليوم. لا أحد يعرف إن كانت وجبة الغد موجودة أصلاً.
مدير مجمع الشفاء الطبي يتحدث عن تشغيل المستشفى بـ20% فقط من طاقته، وعن مرضى يموتون يومياً بسبب انعدام الإمكانات. منظمة الصحة العالمية نفسها، ممثلة بمديرتها الإقليمية، قالتها بوضوح: أطفال غزة يموتون جوعاً. المجاعة لم تعد “خطرًا قادمًا”، بل أصبحت واقعًا داميًا، مؤلمًا، وصامتًا أحيانًا.
البحث عن اللقمة في القمامة
هذه ليست مجاعة بسبب الجفاف أو كوارث طبيعية، بل مجاعة مصطنعة، ناتجة عن قرار سياسي مقصود بإغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات. 51 شاحنة فقط تنتظر على الحدود. آلاف الشاحنات الأخرى متكدسة، لا يُسمح لها بالدخول، وكأن العالم قرر أن يُخضع غزة بالتجويع بعد أن فشل في إخضاعها بالقنابل.
روايات سكان غزة تحمل تفاصيل تفوق أي وصف. أمّ تبحث في القمامة عن ما يسدّ رمق أطفالها. رجل يبكي لأنه لا يستطيع إحضار الدواء لزوجته التي تحتضر. أطفال ينامون على الأرض دون أغطية في برد الليل، وآباء لا يستطيعون حمايتهم سوى بالصمت والعجز.
المساعدات التي تُرسل، والتي تروج لها بعض الجهات، هي في الحقيقة “إهانة” كما وصفها فيليب لازاريني، المفوض العام للأونروا. قالها بمرارة: ما يصل لا يُلبّي حتى 10% من الحاجات. وقالها بحسرة: المجاعة يمكن وقفها، لكن الأمر يتطلب شيئًا بسيطًا جدًا.. إرادة سياسية.
غزة تُباد أمام أعين العالم
لكن تلك الإرادة لا تظهر. إسرائيل قررت استبعاد الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من عمليات الإغاثة، وكلفت مؤسسة “غزة الإنسانية”، المدعومة من واشنطن وتل أبيب، بتوزيع الفتات. الهدف واضح: تفريغ الشمال، ودفع السكان نحو الجنوب، خطوة ضمن خطوات تغيير الواقع الديمغرافي والجغرافي لغزة.
أمام كل هذا، تبقى الحقيقة الأكثر قسوة: غزة تُباد أمام أعين العالم، وليس هناك من يوقف العدّاد. العدّاد الذي يحصي الشهداء، الأطفال الجوعى، الأمهات المكلومات، والأحلام المحطمة. العدّاد الذي لا يتوقف عن التقدّم، لكن العالم كله متأخر عنه… بصمته، بتواطئه، أو بخوفه من قول الحقيقة.