الوضع في قطاع غزة بات على شفا كارثة إنسانية شاملة، تتجاوز حدود المجاعة وتدخل مرحلة الإبادة الجماعية بالصمت. إعلان منظمة “وورلد سنترال كيتشن” عن تعليق عملياتها في توزيع الوجبات الغذائية يعكس عمق الأزمة، ليس فقط من حيث نقص الغذاء، بل من حيث فشل النظام الإنساني العالمي في كسر الحصار الذي تفرضه إسرائيل، والذي بات يستخدم بشكل ممنهج كسلاح حرب ضد المدنيين.
تجميد دخول الإمدادات
ما يثير القلق العميق في هذه الحالة هو أن المنظمة الإغاثية، التي قدمت أكثر من 130 مليون وجبة خلال الأشهر الماضية، لم تعد تملك أي مواد غذائية أو حتى دقيق لإعداد الخبز. نحن لا نتحدث هنا عن تراجع في المساعدات، بل عن انقطاع كامل يعرض حياة مئات الآلاف للخطر الفوري، خاصة الأطفال والمرضى وكبار السن. تجميد دخول الإمدادات، رغم وجود الشاحنات الجاهزة على الحدود، لا يمكن تفسيره إلا كسلوك عقابي يستهدف المجتمع ككل بذريعة الضغط على “حماس” للإفراج عن الرهائن.
المفارقة المؤلمة أن هذه الاستراتيجية، المعلنة بوضوح من قبل الحكومة الإسرائيلية، تعني أن حياة المدنيين يتم رهنها لغايات سياسية وعسكرية. لا حديث هنا عن تفريق بين مقاتل ومدني، أو عن احترام لأبسط قواعد القانون الدولي الإنساني. بل نشهد تحوّلاً خطيراً في شكل الحروب، حيث يُحوّل الجوع والعطش إلى أدوات ضغط، لا تقل فتكاً عن القنابل.
الوضع يزداد تأزماً في ظل فشل المجتمع الدولي في فرض ممرات إنسانية آمنة، وغياب أي أفق واضح لحل سياسي قريب. ومع استمرار إغلاق المعابر منذ مارس، وتصعيد العمليات العسكرية، بات سكان غزة محرومين من الحد الأدنى من مقومات البقاء. لا ماء نظيف، لا غذاء، لا كهرباء، ولا أدوية. وما يزيد الطين بلة أن المنظمات الإنسانية الأخرى التي كانت تملأ الفراغ نسبياً بدأت تنسحب أو تجمد عملياتها، خوفاً على سلامة طواقمها أو لانعدام الجدوى.
انتهاك المبادئ الإنسانية
في ظل هذا السياق، يصبح استخدام الحصار الغذائي وسيلة لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية ليس فقط جريمة حرب، بل انتهاكاً صارخاً لمبادئ الإنسانية. تحويل المساعدات الإنسانية إلى ورقة مساومة يضرب جوهر العمل الإغاثي، ويفتح الباب أمام انهيار الثقة في النظام الدولي برمته، خصوصاً من جانب الشعوب التي ترى في هذا التخاذل تواطؤاً غير معلن.
الوضع في غزة لم يعد يحتاج إلى وصف. هو اليوم نداء استغاثة مفتوح، يفضح العجز السياسي واللامبالاة الأخلاقية، ويؤسس لمرحلة سوداء في التعامل مع الأزمات الإنسانية. كل يوم تأخير في إدخال المساعدات هو جريمة صامتة تُرتكب بحق من لا صوت لهم.