في خضمّ التوترات الإقليمية المتزايدة، أطلق زعيم جماعة “أنصار الله” (الحوثيين) في اليمن، عبد الملك الحوثي، تصريحات لافتة أكد فيها أن استهداف القطع البحرية الأميركية والإسرائيلية سيستمر “بفعالية عالية”، مشيرًا إلى امتلاك حركته القدرات والخطط اللازمة لتوسيع دائرة الاستهداف متى ما رأت ذلك مناسبًا. هذه التصريحات ليست مجرد استعراض خطاباتي في زمن الحرب، بل تأتي في سياق عمليات فعلية شهدت استهدافات متعددة لسفن عسكرية وتجارية في البحر الأحمر وخليج عدن.
ما يُثير القلق السياسي والعسكري في هذا التصعيد أنه يضع الحوثيين في موقع مواجهة مباشرة – وإن غير متكافئة من الناحية التقنية – مع الولايات المتحدة. فهل نحن أمام مجازفة حوثية محسوبة؟ أم تصعيد مدفوع بتكتيكات إيرانية أوسع؟ الأهم من ذلك، كيف ستتعاطى إدارة دونالد ترامب، في حال عودته المحتملة إلى الحكم، مع هذا التحدي؟ وهل سيكون البحر الأحمر مسرحًا جديدًا للمواجهة الأميركية – الإيرانية بأدوات يمنية؟
الحوثيون، الذين يواجهون منذ سنوات تحالفًا عسكريًا عربيًا تقوده السعودية، نجحوا في السنوات الأخيرة في تطوير قدراتهم العسكرية بشكل ملحوظ، بما يشمل تصنيع واستخدام طائرات مسيّرة بعيدة المدى، وصواريخ دقيقة التوجيه، وقدرات استخبارية تؤهلهم لضرب أهداف بحرية متحركة، وهو تطور غير مسبوق في تاريخ الجماعة. هذا التحول لم يكن ممكنًا لولا الدعم العسكري والتقني الإيراني، بحسب تقارير استخباراتية دولية كثيرة.
لكن التصعيد الأخير يتجاوز الحسابات التقليدية المرتبطة بالصراع اليمني الداخلي أو حتى التنافس الإقليمي مع السعودية. فاستهداف السفن الأميركية، وليس فقط الإسرائيلية أو المرتبطة بها، يحمل رسالة ذات بعد استراتيجي أوسع، مفادها أن الحوثيين باتوا جزءًا من محور سياسي – عسكري يتعامل بنديّة مع الولايات المتحدة، على الأقل في المناطق الرمادية مثل البحر الأحمر. هذا النوع من التصعيد لا يمكن أن يُفهم على أنه محض مغامرة ميدانية، بل على الأرجح هو تنفيذ ضمني لسياسة ردع إيرانية بالوكالة.
من ناحية واشنطن، فإن إدارة بايدن رغم إدراكها لخطورة التصعيد، حاولت حتى الآن تجنّب الانزلاق إلى مواجهة عسكرية شاملة في اليمن. لكن احتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ومعه عقيدته السياسية التي تتسم بالقوة والمواجهة المباشرة مع “وكلاء طهران”، سيعيد رسم خطوط الاشتباك بطريقة أكثر جذرية. ترامب في ولايته السابقة لم يبدِ أي تسامح تجاه أي تهديد للمصالح الأميركية، وأمر شخصيًا بتنفيذ عملية اغتيال قاسم سليماني في العراق، مما يجعل أي هجوم حوثي جديد على سفن أميركية بمثابة “خط أحمر” إذا تكررت هذه الظروف تحت ولايته.
هنا، تبرز المعضلة: في حال استمر الحوثيون بتكثيف هجماتهم، هل ستلجأ واشنطن إلى ضربات عسكرية مباشرة ضد مواقعهم؟ وهل سيكون ذلك محصورًا بالردع التقليدي، أم مقدّمة لحرب جديدة على غرار الحملة التي شنّتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق؟ لا شك أن مثل هذا السيناريو سيؤدي إلى توسع رقعة الصراع في الإقليم، خاصة في حال تفاعل إيران مع التطورات بطريقة تصعيدية، سواء عبر البحر أو من خلال ميليشياتها المنتشرة في سوريا والعراق ولبنان.
يبدو أن الحوثيين يراهنون، حتى الآن، على محدودية رد الفعل الأميركي، تمامًا كما راهنوا سابقًا على صمت دولي تجاه تصعيدهم في اليمن، وهو رهان محفوف بالمخاطر. فالمجتمع الدولي، ورغم اعتراضاته الشكلية على استخدام القوة من أي طرف، لا يمتلك أدوات فعالة لكبح جماح الهجمات البحرية التي تهدد أمن الطاقة العالمي وممرات الشحن الحيوية. في هذا السياق، فإن أي عملية حوثية كبيرة في عرض البحر، قد تكون الشرارة التي تُطلق سلسلة من الضربات الأميركية – وربما الإسرائيلية – في العمق اليمني، وتعيد تشكيل المشهد برمّته.
الأمر الأكثر خطورة في المعادلة أن الحوثيين لا يتصرفون كميليشيا منفصلة، بل كسلطة أمر واقع تسيطر على جزء كبير من شمال اليمن، ولديها أجهزة استخبارات وأمن داخلي وشبكات تهريب معقّدة، مما يجعل من ضربها عسكريًا أمرًا معقدًا من الناحية الاستخباراتية واللوجستية. وفي حال تمادت الهجمات، فإن الضغط السياسي داخل الولايات المتحدة – خصوصًا في أوساط الجمهوريين المؤيدين لنهج ترامب – قد يدفع باتجاه خيارات عسكرية غير معتادة، حتى ولو تزامن ذلك مع محاولة لإعادة رسم قواعد الاشتباك في البحر الأحمر.
في المجمل، لا يمكن فصل التصعيد الحوثي الأخير عن السياق الإقليمي الأشمل. إنه انعكاس واضح لمعادلة الردع الجديدة التي تسعى أطراف محور المقاومة إلى فرضها على الولايات المتحدة وحلفائها. لكن هذه المعادلة محفوفة بالمخاطر، لأنها قد تؤدي إلى انفجار إقليمي واسع يصعب احتواؤه، خاصة في ظل ضبابية المواقف الدولية وانقسامها حول أولويات المنطقة. ومع غياب أفق سياسي لحل الأزمة اليمنية، تبقى الساحة مفتوحة لكل الاحتمالات، من التصعيد الموضعّي إلى المواجهة الشاملة.
وإذا كان عبد الملك الحوثي يعتبر أن عملياته هي رد فعل مشروع على دعم واشنطن غير المشروط لإسرائيل وعلى الصمت الغربي تجاه معاناة الفلسطينيين في غزة، فإن خصومه يرون في هذه الخطوات مقامرة قد تؤدي إلى تدمير ما تبقى من بنى تحتية يمنية، وتُعيد البلاد إلى نقطة الصفر.
في النهاية، فإن البحر الأحمر قد يتحول إلى خط تماس جديد في الحرب الباردة المعاصرة بين الولايات المتحدة ومحور المقاومة، مع ما يحمله ذلك من تداعيات على الأمن الإقليمي، واستقرار الملاحة الدولية، بل وعلى مستقبل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.