في شوارع العاصمة السودانية الخرطوم، لا يحتاج الزائر إلى كثير من الشرح لفهم حجم الكارثة. الجسور التي كانت تربط ضفاف النيل أصبحت أكوامًا من الخرسانة المدمرة. الأبنية الشاهقة إما تهدمت بفعل القصف أو باتت آيلة للسقوط، فيما تروي جدران المستشفيات المنهوبة والمراكز الطبية المغلقة فصولًا من انهيار منظومة صحية كانت هشّة أصلاً قبل الحرب.
التيار الكهربائي مقطوع عن أغلب الأحياء، ومحطات المياه إما دُمّرت كليًا أو فرغت من القدرة على الضخ، مما أجبر السكان القلائل الذين لم يغادروا المدينة على الاعتماد على مصادر بدائية أو غير صحية للحصول على المياه. بهذا، باتت الخرطوم تُشبه مدينة منكوبة بالكامل، لا تصلح للحياة ولا تملك ما يحفظ الكرامة أو الأمل.
الحرب المستمرة: عامان من القتال بلا أفق
منذ اندلاع الصراع المفتوح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، ظلت الخرطوم مسرحًا لمعركة لا تنطفئ. وعلى مدار أكثر من عامين، لم تقتصر المعارك على المناطق العسكرية أو المقرات الأمنية، بل امتدت إلى الأحياء السكنية والمناطق الحيوية، مخلفة دمارًا واسعًا في الممتلكات العامة والخاصة.
الطائرات المسيّرة والصواريخ المحلية الصنع صارت مشهدًا يوميًا، ومعها تزايد استهداف منشآت مدنية حيوية، مثل محطات الكهرباء والسدود ومستودعات الوقود، إما عمدًا أو عن طريق الخطأ، ما أدى إلى تفاقم الأوضاع المعيشية والانهيار التدريجي في مظاهر الحياة المدنية.
كلفة الإعمار: رقم فلكي في وجه واقع مستحيل
تقدّر السلطات السودانية أن إعادة إعمار الخرطوم وسائر المدن المتضررة ستحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات، وهو رقم يعكس حجم الكارثة لكنه لا يجد صدى في المجتمع الدولي، الذي صار أكثر عزوفًا عن تقديم المساعدات. ففي ظل استمرار القتال، وتضاؤل فرص التوصل إلى اتفاق سياسي، لا تبدو أي دولة أو جهة مانحة مستعدة لضخ هذه المبالغ في بلد لم تكتمل فيه صورة ما بعد الحرب.
الأكثر من ذلك، أن الولايات المتحدة، التي لطالما كانت من أكبر المانحين للسودان، بدأت بالفعل في تقليص مساعداتها الإنسانية والاقتصادية، في ظل أولويات داخلية متغيرة، وإحباط متزايد من عدم جدوى الدعم في ظل عدم الاستقرار السياسي والعسكري المتواصل.
ما بعد الحرب: بين الاستنزاف والفقدان الجماعي
لا يقف الضرر عند حدود المباني والبنية التحتية. فالحرب التي اندلعت في السودان، وشلّت الخرطوم، تسببت في موجات نزوح جماعي، وفقدان مصادر الرزق، وانهيار التعليم، وتفكك الروابط الاجتماعية، خصوصًا في المدن الكبرى التي كانت في السابق مراكز حضرية نشطة.
كما ألقت الحرب بظلالها على الكفاءات المهنية التي غادرت البلاد، من أطباء ومهندسين ومعلمين، وترك رحيلهم فجوة يصعب سدّها لاحقًا، حتى لو توقفت الحرب غدًا.
معضلة المساعدات: عالم ينكفئ على ذاته
السياق الدولي يزيد الطين بلّة. فالعالم الذي اعتاد على تقديم الدعم في حالات الكوارث أصبح اليوم أكثر ترددًا، بل وأكثر انعزالًا، بفعل الأزمات المتلاحقة داخليًا وخارجيًا: من الحرب في أوكرانيا، إلى النزاعات في غزة، إلى الأزمات الاقتصادية في الغرب.
وفي هذا الإطار، لا يبدو السودان أولوية لأي جهة دولية كبرى. ومع غياب حكومة مركزية قوية يمكن التعامل معها، تصبح المساعدات الطارئة رهينة الفوضى السياسية والميدانية، وهو ما يجعلها غير فعالة، إن لم تكن عديمة الجدوى في بعض الأحيان.
خلاصٌ بعيد: لا حل بلا نهاية للقتال
المعادلة واضحة: لا يمكن الحديث عن إعادة إعمار دون وقف شامل لإطلاق النار، وضمان أمن طويل الأمد، وتوافق سياسي يعيد بناء الدولة السودانية على أسس جديدة. لكن كل هذه الشروط تبدو بعيدة المنال في اللحظة الراهنة.
وبينما يُجمع المراقبون على أن تكلفة الحرب ستتضاعف كلما طال أمدها، لا يزال الفرقاء متمترسين في خنادقهم، يتقاتلون على أنقاض وطن ينهار كل يوم، فيما الخرطوم وسائر المدن لا تنتظر سوى من يُوقف عجلة الدمار قبل أن تُمحى تمامًا من الجغرافيا والذاكرة.