ليس غريبًا أن تتعرّض التنظيمات العقائدية لارتجاجات داخلية تعصف بتماسكها حين يختل التوازن بين الإيديولوجيا والواقعية، ولكن أن تشهد حركة مثل حماس التي لطالما تباهت بوحدة صفها الحديدية صراعًا علنيًا على النفوذ بين أبرز رجالاتها، فذلك يعد مؤشراً على تغير عميق في منطق القيادة والحكم داخلها، وربما إيذانًا بمرحلة ما بعد الرموز.
في مشهد يعيد إلى الأذهان فصول الانقسام داخل الحركات الثورية حين تنضج أزماتها أكثر من نضوج مشروعها، يظهر اسم خليل الحية بوصفه رجل المرحلة المتحكم في خيوط القرار، في مقابل ظاهر جبارين الذي لم يخفِ امتعاضه من الإقصاء الممنهج، لا سيما بعد إسناد ملف الأسرى إلى موسى دودين. لقد تحوّل الخلاف من تباين رؤى إلى صراع على الشرعية القيادية، بما يحمله ذلك من ارتدادات على البنية التنظيمية للحركة.
منذ اغتيال محمد السنوار، بدا أن الحية وجد في الفراغ القيادي فرصة لإعادة رسم خارطة الولاءات. لكن المسألة تجاوزت منطق سدّ الفراغات إلى منطق تصفية الحسابات. فالحية، وإن كان يقدم نفسه كمنقذ للحركة من التفكك، إلا أنه يرسخ منطق التفرد الذي طالما ادّعت حماس أنها ترفضه وبالأخص أن قراراته الأحادية وطريقته الخاصة في إدارة الملفات التفاوضية لم تعُد تخفى على الداخل الحمساوي، كما لم تعد تسلم من الانتقاد في الشارع الغزي المنهك بعد حرب طاحنة دمرت كل شيئ .
ولا يمكن قراءة هذا الصراع بمعزل عن البعد الإنساني الذي يغيب غالبًا عن عقلية التنظيم، فالحية الذي يعاني من أزمة صحية غير مفصح عنها رسميًا يتحرك في هامش ضيق بين متطلبات القيادة ومحدودية القدرة، وإذا كان تاريخه النضالي يمنحه شرعية داخل بعض الأروقة، فإن حاضره المليء بالتكتم والارتباك يجعل من مستقبله موضع تساؤل، فالقيادة ليست فقط في امتلاك مفاتيح القرار بل في القدرة على تأمين استمرارية المشروع دون تضحيات عبثية.
لقد أدت سياسة الرفض التي يميل إليها الحية إلى نتائج مثيرة للجدل، ليس فقط على مستوى الداخل، بل حتى على صورة حماس أمام الوسطاء، فعندما يدفع المدنيون ثمناً باهظًا لصالح مواقف عقائدية جامدة، وتختزل المطالب الشعبية في شعارات يغلب عليها الطابع العاطفي وليس الواقعي، يجد التنظيم نفسه أمام معضلة أخلاقية يصعب تجاوزها عبر الخطاب التعبوي، ومن هنا تتجلى خطورة المرحلة : لم يعد التحدي قادمًا فقط من الخارج، بل من الداخل الذي يشهد حالة تململ وصراع أجنحة بدأت تترك أثرها على وحدة القرار.
في ظل هذا السياق قد لا يكون جوهر المسألة في مآلات الصراع بين الحية وجبارين بقدر ما يكمن في تساؤل أوسع: هل ما زال في حماس من يسعى إلى إعادة تعريف القيادة بوصفها مسؤولية جماعية تتجاوز الأفراد؟ وهل يمكن للتنظيم أن يتجاوز منطق التنافس الضيّق ويعيد الاعتبار لمبدأ الشورى المؤسسية، تفاديا لانزلاق بنية الحركة نحو التشرذم، كما حدث مع بعض تجارب الإسلام السياسي التي لم تنجح في الفصل بين الشخصي والتنظيمي؟
إن ما يجري داخل حماس لا يمكن اختزاله في خلاف عابر بين شخصيتين أو تيارين، بل يعكس ملامح أزمة قيادية تواجه صعوبة في التكيّف مع التحولات المتسارعة. وقد تكون هذه اللحظة مفصلية في تاريخ الحركة، تفتح الباب أمام إعادة تقييم داخلية أو تغيّر في موازين التأثير،وفي كل الأحوال تبدو الحاجة ملحة إلى مراجعة داخلية صريحة، تضع مصلحة التنظيم فوق الاعتبارات الشخصية والولاءات الجزئية، حتى لا تفقد الحركة قدرتها على رسم الاتجاه وسط واقع إقليمي معقد.
في المحصلة لا تملك حماس ترف الانشغال بخلافاتها الداخلية ولا رفاهية تجاهل الواقع المتغير الذي يحيط بالقضية الفلسطينية، فالمشهد الإقليمي لم يعد كما كان والديناميكية الجديدة تفرض على الجميع قراءة متأنية للسياق، لا سيما في ظل تراجع الدور الإيراني وتآكل جدوى الخيار العسكري كأداة وحيدة للصراع، وبالنظر الى هذه المعطيات فإن المرحلة تستدعي قدرًا عاليًا من الهدوء ورجاحة العقل والاعتراف بأن المشروع الوطني لا يمكن أن يُبنى على مفردات العزل والمواجهة المفتوحة، بل على التوافق السياسي، لانخراط الجاد في صيغة فلسطينية موحدة، حيث تظل منظمة التحرير بكل ما لها وما عليها إطارها الأوسع والأكثر شرعية.