في ظل تصاعد التوترات العسكرية بين طهران وتل أبيب، ورغبة واشنطن في إبقاء خيار الضربة العسكرية قائمًا، اجتمع وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبريطانيا، الجمعة، مع نظيرهم الإيراني عباس عراقجي في جنيف، في محاولة لإعادة إحياء المسار الدبلوماسي بشأن برنامج إيران النووي. الاجتماع، الذي عُقد وسط أجواء متوترة دوليًا، جاء كمحاولة أوروبية استباقية لاحتواء الأزمة المتفاقمة بين إيران والغرب، ودرء احتمالات الانزلاق إلى مواجهة شاملة لا تُبقي من الدبلوماسية إلا ذكراها.
لا حلول عسكرية… ولكن لا تقدم ملموس
وزراء الخارجية الأوروبيون أكدوا، بعد ثلاث ساعات من النقاش، تمسّكهم بمبدأ الحوار مع إيران، رغم غياب مؤشرات حقيقية على إحراز تقدم. الوزير الفرنسي جان نويل بارو اعتبر أن “لا حل عسكريًا نهائيًا للقضية النووية الإيرانية”، في حين أبدى نظيره الألماني يوهان فاديفول تفاؤلًا حذرًا، مشيرًا إلى أن طهران “تبدو مستعدة مبدئيًا لمواصلة المناقشات”.
ومع ذلك، لم تتجاوز تصريحات الوفود الأوروبية مستوى الالتزام المبدئي، ما يعكس هشاشة الأرضية السياسية المتوفرة حاليًا لأي اختراق دبلوماسي حقيقي، خصوصًا مع رفض طهران تقديم أي تنازل وهي تحت النار.
إيران: قصفنا هو نسف للمفاوضات
الجانب الإيراني بدا أكثر حدة في لهجته. وزير الخارجية عباس عراقجي، وقبيل دخوله في محادثاته مع الأوروبيين، وصف الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على المنشآت الإيرانية بأنها “خيانة للجهود الدبلوماسية”، مؤكدًا أن طهران كانت على وشك التوصل إلى اتفاق واعد مع واشنطن قبل أن تُستهدف مواقعها الحيوية.
وفي كلمته أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، قال عراقجي إن الإيرانيين كانوا على موعد في 15 يونيو لعقد لقاء مباشر مع الأميركيين، لكن القصف الإسرائيلي أعاد كل شيء إلى نقطة الصفر، معتبرًا أن “العدوان ينسف أي إمكانية للحوار”.
الأوروبيون بين واشنطن وطهران
تجد أوروبا نفسها اليوم في موقف شديد التعقيد: فهي من جهة تسعى لتثبيت دورها كوسيط دبلوماسي وازن، ومن جهة أخرى، غير قادرة فعليًا على التأثير في حسابات إيران أو أميركا دون دعم صريح من واشنطن. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن عن نية باريس، برلين، ولندن تقديم “عرض تفاوضي شامل” يشمل البرنامج النووي الإيراني، والصواريخ الباليستية، والأنشطة الإقليمية لطهران، إلا أن هذه الرؤية قد تصطدم بالواقع السياسي الإيراني الذي بات أكثر تصلبًا بعد الهجمات.
ورغم حديث الأوروبيين عن “توحيد الجهود” و”استعادة السيطرة على البرنامج النووي الإيراني”، إلا أن غياب آليات ضغط حقيقية أو حوافز اقتصادية جذابة يضعف من قدرتهم على التأثير في مواقف طهران أو تعديل سلوكها التفاوضي.
التوقيت الحسّاس… والعرض المتأخر
يتزامن هذا التحرك الدبلوماسي الأوروبي مع مهلة الأسبوعين التي أعلن عنها البيت الأبيض قبل اتخاذ قرار بشأن تدخل عسكري أميركي محتمل. هذه المهلة، التي اعتُبرت بمثابة الفرصة الأخيرة، تمنح الأوروبيين متسعًا محدودًا لخلق اختراق في جدار الجمود الحالي. لكن الإشكال لا يكمن فقط في ضيق الوقت، بل في الفجوة العميقة في الثقة بين الأطراف.
فإيران، التي باتت أكثر حذرًا بعد “ضربات ما قبل التفاوض”، ترى في الهجوم الإسرائيلي رسالة مزدوجة: لا تفاوض دون تنازلات كبيرة، ولا ضمانات بعدم تكرار الاستهداف، وهو ما يُضعف دوافعها للانخراط في أي مسار سياسي قد يُستغل لتكبيلها مجددًا بشروط مشددة دون مقابل حقيقي.
جنيف: لحظة اختبار للدبلوماسية… أم محطة وداع؟
لقاء جنيف، الذي بدا في شكله وكأنه مبادرة للإنقاذ، يُخفي في جوهره اعترافًا أوروبيًا ضمنيًا بصعوبة إنقاذ الاتفاق النووي بالوسائل التقليدية. فالأطراف باتت تتحاور ليس على أرضية “إحياء اتفاق 2015″، بل على قاعدة جديدة تمامًا، تتداخل فيها الضربات العسكرية مع محاولات الوساطة، والضغط الاقتصادي مع الاستنزاف الجيوسياسي.
وفي ظل هذا الواقع المتشابك، تبدو جنيف مجرد محاولة لحماية المسار الدبلوماسي من الانهيار الكامل، أكثر من كونها مفاوضات فعلية لإنتاج حل. فالكل يدرك أن القرار النهائي لم يعد في جنيف، بل في واشنطن وطهران… وما بينهما، مساحة من المناورات المحفوفة بالمخاطر، لا يسكنها إلا الانتظار.
زاوية مضافة: ماذا لو فشلت جنيف؟
إذا فشل المسار الأوروبي في إعادة إيران إلى طاولة الحوار الجاد، فإن المشهد الإقليمي سيتجه نحو أحد سيناريوهين: إما تصعيد عسكري أكثر مباشرة تشارك فيه واشنطن هذه المرة، أو تصعيد غير مباشر عبر الوكلاء الإقليميين. وفي الحالتين، ستكون أوروبا أول المتضررين: سياسيًا بسبب فشلها كوسيط، وأمنيًا بسبب تداعيات الحرب على حدودها الجنوبية والشرقية.
لذا، فإن جنيف ليست مجرد “اجتماع دبلوماسي آخر”، بل لحظة اختبار حقيقي لقدرة أوروبا على التأثير في واحدة من أعقد أزمات العصر… والأيام القادمة ستكشف إن كانت العواصم الأوروبية لا تزال قادرة على صنع الفرق، أم أنها فقط تشهد نهاية دورها كوسيط في لعبة الكبار.