أعلنت قوات الدعم السريع، يوم الأربعاء، إحكام قبضتها على منطقة جبل العوينات الواقعة في المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا، وذلك عقب انسحاب الجيش السوداني منها. ويُعد هذا التقدم تطورًا مفصليًا في مسار الحرب السودانية، نظرًا لما تحمله هذه المنطقة من رمزية جغرافية واستراتيجية وأمنية، تضعها في قلب المعادلات الإقليمية المرتبطة بالصراع.
المثلث الحدودي ليس مجرد تقاطع جغرافي بين ثلاث دول، بل هو عقدة جيوسياسية حساسة في عمق الصحراء الكبرى، وقد لعب دورًا تاريخيًا كممر للتهريب والتنقلات غير المشروعة. لعقود، ظلّت هذه المنطقة شريانًا خلفيًا غير مراقب للأنشطة غير القانونية، بما في ذلك تهريب الأسلحة والمقاتلين والبضائع، ما جعلها هدفًا دائمًا للقوى الطامحة إلى تعزيز نفوذها في المناطق الحدودية.
السيطرة على هذه البقعة تمنح قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، ورقة قوة عسكرية وسياسية مهمة. فهي لا توفر فقط منفذًا لوجستيًا لتأمين خطوط الإمداد، بل تفتح أيضًا مجالًا للتواصل الجغرافي مع الأراضي الليبية، حيث يُعتقد أن علاقات قائمة بين الدعم السريع وبعض الكتائب المسلحة الليبية قد تسهل تبادل الدعم العسكري واللوجستي.
ويُرجّح أن لهذه السيطرة أبعادًا اقتصادية لا تقل أهمية عن الأبعاد الأمنية. فبعض التقارير تفيد بأن منطقة جبل العوينات وما يحيط بها تحتوي على احتياطيات من النفط والمعادن، ما قد يشكل مصدرًا إضافيًا للتمويل الذاتي للدعم السريع في حال تمكّن من استغلالها. هذا العنصر يعزز من قدرة هذه القوات على الصمود والانخراط في حرب استنزاف طويلة ضد الجيش السوداني، خاصة إذا أُرفق بدعم خارجي غير مُعلن.
الجانب الاستراتيجي لهذه الخطوة يتمثل في تعميق تمركز الدعم السريع داخل الصحراء الشمالية، بما يمنحه قدرة أكبر على المناورة وتوجيه ضربات محتملة نحو الشمال الشرقي أو حتى نحو الحدود المصرية إذا تطورت الأمور ميدانيًا. كما أن هذا الامتداد الميداني الجديد يُضعف قدرة الجيش السوداني على الاحتفاظ بتماسك مواقعه الدفاعية، ويفتح ثغرات قد تُستغل لاحقًا لتوسيع نفوذ قوات حميدتي.
وفي الوقت الذي تروج فيه القيادة العسكرية السودانية لاتهامات بشأن تلقي الدعم السريع إسنادًا مباشرًا من قوات تابعة للمشير خليفة حفتر، لا تزال هذه المزاعم تفتقر إلى دليل قاطع. ومع ذلك، فإن توقيت السيطرة على المثلث الحدودي، وتزامنه مع تحركات لمجموعات مسلحة ليبية، يثير تساؤلات جدية بشأن حجم التنسيق العسكري العابر للحدود، وما إذا كانت ليبيا بصدد التحول إلى قاعدة خلفية لقوى الدعم السريع.
مصر، من جهتها، تقف أمام مشهد مقلق. فحدودها مع كل من السودان وليبيا لطالما مثّلت مصدر قلق أمني متزايد، والآن باتت أكثر عرضة للاضطراب مع وصول قوات الدعم السريع إلى منطقة تمثل رئة الصحراء الشرقية. هذا الواقع يضع أجهزة الأمن المصرية أمام تحديات كبيرة، في مقدمتها خطر تسلل عناصر مسلحة أو متطرفة، إلى جانب احتمالات موجة نزوح جماعي من المناطق الحدودية السودانية باتجاه الأراضي المصرية.
تداعيات هذا التقدم لا تنحصر فقط في البعد الميداني، بل تشمل أيضًا البعد السياسي الإقليمي. إذ إن تعقيد المشهد يُبعد فرص التوصل إلى تسوية داخلية للصراع السوداني، ويزيد من احتمال تدويل الأزمة وتحويلها إلى ساحة صراع بالوكالة بين أطراف عربية وإقليمية. ومع انسحاب الجيش السوداني من مثلث استراتيجي بهذه الحساسية، سواء لأسباب تكتيكية كما قيل، أو تحت وطأة ضغط ميداني، فإن ذلك يُعد نكسة معنوية للقيادة العسكرية قد تنعكس على أدائها في مناطق أخرى، لا سيما في إقليم دارفور.
وقد أقر المتحدث باسم الجيش السوداني بإخلاء منطقة المثلث، مؤكدًا أن الخطوة جاءت في سياق “ترتيبات دفاعية لصد العدوان”، فيما اعتبرت قوات الدعم السريع أن هذا التقدم سيترك تأثيرًا مباشرًا على عدة محاور قتالية، لا سيما في المناطق الصحراوية، مشيرة إلى أنها استولت على عشرات المركبات العسكرية عقب انسحاب الجيش.
في المقابل، وجهت القيادة السودانية اتهامات جديدة للقوات الليبية المتحالفة مع المشير حفتر، متهمة إياها بالمشاركة في الهجوم، وهو ما وصفته بخرق سافر للسيادة السودانية وانتهاك للقانون الدولي. ولم يصدر عن قيادة حفتر أي تعليق رسمي على هذه الاتهامات، مما يترك المجال مفتوحًا أمام مزيد من التأويلات والتكهنات بشأن دور بنغازي في تغذية النزاع السوداني.
وعلى الأرض، أفاد مصدر عسكري بأن المناوشات في المنطقة بدأت قبل أيام، بمشاركة مقاتلين من “كتيبة سبل السلام” الليبية، وهي إحدى المجموعات التي يُشتبه بعلاقتها بقوات حفتر. وقال المصدر إن الجيش قرر الانسحاب من المنطقة بعد تعرضه لخسائر ميدانية، واصفًا الخطوة بأنها “إجراء تكتيكي” لتجنب تصعيد غير محسوب.
ومن المهم التذكير بأن منطقة المثلث تقع شمال مدينة الفاشر، المعقل الإداري الأخير للجيش في دارفور، والتي تتعرض منذ أكثر من عام لحصار خانق وهجمات متكررة من قوات الدعم السريع. وهو ما يضع تطور الأحداث الأخيرة في سياق محاولة أوسع لعزل الفاشر وتحقيق تفوق حاسم في إقليم يشكل عمقًا استراتيجيًا لكلا الطرفين.
في المجمل، يبدو أن سيطرة قوات الدعم السريع على المثلث الحدودي تفتح فصلًا جديدًا من الصراع في السودان، عنوانه توسيع رقعة النفوذ الميداني وتكثيف البعد الإقليمي للصراع. ولا شك أن هذه التطورات ستعيد تشكيل الحسابات العسكرية والسياسية، ليس فقط داخل السودان، وإنما أيضًا في عواصم الجوار التي باتت أكثر استشعارًا للخطر