شهدت مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، يوماً دامياً جديداً يعيد التأكيد على هشاشة أي محاولة لوقف النزيف في السودان. فعلى الرغم من إعلان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن توافق مع قائد الجيش عبدالفتاح البرهان على هدنة إنسانية مدتها أسبوع، تعرّضت المدينة يوم الجمعة لقصف مدفعي عنيف من قبل قوات “الدعم السريع”، استهدف أحياءً سكنية وأسفر عن مقتل وجرح العشرات، معظمهم من المدنيين.
هذه التطورات جاءت لتنسف آمالاً ضئيلة بتجميد مؤقت للمعارك في مدينة محاصرة منذ أسابيع، وتعاني من كارثة إنسانية متفاقمة في ظل غياب الخدمات الطبية ونُدرة الإمدادات الحيوية.
رفض الهدنة واتهامات متبادلة
قوات “الدعم السريع” رفضت الهدنة بشكل قاطع، معتبرة إياها محاولة مكشوفة من الجيش السوداني لإدخال ذخائر ومؤن إلى من تبقّى من جنوده داخل المدينة. وقال المستشار السياسي في “الدعم السريع”، الباشا طبيق، إن ما وصفها بـ”الميليشيات المحاصرة” تحاول استغلال الغطاء الإنساني لإعادة التموضع، متهماً الأمم المتحدة بالتورط في “دعوات مفخخة” قد تعرقل حسم المعركة.
وفي منشور نشره عبر منصة “إكس”، شدد طبيق على أن قوات “تأسيس” التابعة للدعم السريع هي من تؤمن الممرات الآمنة لخروج المدنيين، زاعماً أن الجيش والحركات المسلحة المتحالفة معه يستخدمون المدنيين كدروع بشرية لعرقلة تقدم قواته داخل المدينة.
هذا الخطاب، وإن استند إلى لغة إنسانية ظاهرًا، يعكس بشكل واضح سعي “الدعم السريع” لفرض واقع عسكري بالقوة، وتجاهل كامل للمبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني الذي يجرّم استهداف المناطق المدنية، ويعتبر حماية السكان أولوية لا تخضع لحسابات المعركة.
قصف الأحياء السكنية ومأساة المدنيين
تقرير تنسيقية لجان مقاومة الفاشر أكد أن القصف المدفعي الذي شنّته “الدعم السريع” طاول أحياء آهلة بالسكان، وأدى إلى مقتل عدد من النساء والأطفال، إضافة إلى إصابة العشرات بجروح متفاوتة، وسط نقص حاد في المستلزمات الطبية والعجز المتزايد للطواقم الصحية.
وتعزز هذه الروايات ما نشرته شبكة أطباء السودان التي أعلنت أن 13 شخصاً، بينهم ثلاثة أطفال، قضوا في القصف الأخير، بينما أُصيب 21 آخرون، في واحدة من أعنف الهجمات التي تتعرض لها المدينة منذ بداية النزاع.
اللافت أن القصف جاء بعد نحو أسبوعين من الهدوء النسبي، وهو ما يُضعف فرضية أن تكون العملية دفاعية أو ردًّا على هجوم عسكري مضاد، بل يشير إلى تصعيد استباقي ربما بهدف كسر إرادة الصمود داخل المدينة، أو دفع المدنيين إلى النزوح القسري تحت ضغط الخوف والجوع.
بين المبادرة الأممية والتعنت الميداني
الموقف الأممي، الذي بدا متفائلًا نسبيًا بإمكانية تثبيت هدنة إنسانية، اصطدم مجددًا بجدار التعنت من قبل “الدعم السريع”، التي ترفض حتى الآن أي صيغة لوقف إطلاق النار في الفاشر، وتصرّ على استكمال السيطرة العسكرية تحت مبرر “تحرير المدينة” من الجيش والميليشيات المتحالفة معه.
هذا الإصرار يكشف عن خلل هيكلي في مقاربة المجتمع الدولي للصراع السوداني، فغياب آليات ضغط فاعلة على الأطراف المتحاربة، وعدم وجود كيان تنفيذي ميداني قادر على فرض الالتزام بأي هدنة، يجعل من المبادرات الأممية مجرد بيانات نوايا، تُنسف في الميدان بقذيفة مدفعية واحدة.
قصف الفاشر… ما الذي تبقى من الإنسانية؟
القصف الأخير ليس مجرد تطور عسكري في ساحة معركة متغيرة، بل هو مشهد مُصغر لحالة الانهيار الشامل التي يعيشها السودان، حيث تتآكل القيم الإنسانية تحت ثقل الحرب، ويتحول المدنيون إلى أوراق ضغط في لعبة السيطرة والنفوذ.
إن رفض “الدعم السريع” للهدنة الإنسانية، واتهامه الجيش باستغلالها، لا يعفيه من مسؤوليته المباشرة عن قتل المدنيين وقصف الأحياء السكنية. كما أن إخراج المساعدات إلى “المناطق الآمنة خارج المدينة”، كما يقترح مستشاروه، يبدو وكأنه هندسة للواقع السكاني وفق متطلبات المعركة، لا محاولة حقيقية لإنقاذ حياة الأبرياء.
وسط هذا المشهد المأزوم، تبدو الفاشر اليوم وكأنها تُحاصر مرتين: مرة من قبل المدافع والقناصات، ومرة من الصمت الدولي الذي يكتفي بالتحذير دون تدخل حاسم، بينما تنزف المدينة، بصمت، تحت أنقاضها.