في الوقت الذي يعيش فيه قطاع غزة واحدة من أسوأ مراحله من حيث الكلفة الإنسانية والدمار الشامل، لا تزال حركة حماس تتريث في التعاطي مع مقترح الهدنة الذي أعلنت واشنطن قبول إسرائيل لبنوده، وسط حالة من الغضب الشعبي والإحباط المتصاعد. فقد كشفت مصادر مقربة من الحركة أن قيادتها تدرس بنود المقترح الأميركي الذي يقضي بوقف لإطلاق النار لمدة شهرين، في وقت تتوالى فيه التقارير حول حجم الخسائر المروعة في الأرواح والبنية التحتية.
إنهاء حماس
هذا التردد، وإن حاولت الحركة تبريره بأنه يندرج ضمن حسابات سياسية وميدانية دقيقة، يبدو منفصلاً عن واقع القطاع، حيث يدفع المدنيون ثمناً باهظاً كل يوم. فالمشكلة لا تكمن فقط في تأجيل الرد، بل في أن جوهر موقف حماس يبدو متمسكاً أكثر بالحفاظ على كيانها السياسي، ولو جاء ذلك على حساب أي تقدم حقيقي نحو وقف النار أو إنقاذ ما تبقى من مقومات الحياة في غزة.
فالحديث عن “دراسة المقترحات” بعد إعلان رئيس أقوى دولة في العالم قبول الطرف الآخر لشروط الهدنة، يعكس تخبطاً واضحاً في القرار، أو على الأقل استنزافاً لفرص ثمينة يمكن أن تقلص الكارثة. وفي المقابل، يواصل بنيامين نتنياهو خطاباً متشدداً يسعى فيه لإقناع الداخل الإسرائيلي والعالم بأن هدفه الاستراتيجي هو “إنهاء حماس”، لا الدخول معها في ترتيبات جديدة تحفظ نفوذها.
حسابات حماس الضيقة
وفي ظل هذا الواقع، تبدو قيادة الحركة وكأنها تنجرف نحو حسابات تتعلق بمستقبل سلطتها في القطاع، أكثر من حرصها على تقليص حجم الكارثة، أو حتى الاستثمار السياسي الذكي في مقترح دولي يحقق هدنة مؤقتة قد تكون مدخلاً لتسويات أكبر. فكل يوم من التأخير لا يعني فقط مزيداً من الدمار، بل خسارة ممكنة لفرص التفاوض ذاتها، مع اتساع فجوة الثقة الدولية بالحركة وبقدرتها على التجاوب الإيجابي مع المبادرات.
كما أن غياب موقف حاسم من قبل حماس تجاه المقترح الأميركي يفتح المجال أمام مزيد من الضغوط الإقليمية والدولية، خاصة من الأطراف الوسيطة مثل مصر وقطر، التي تجد نفسها مضطرة لمواصلة الجهود رغم غموض موقف الطرف الفلسطيني المعني بالتهدئة. وفي المقابل، يستثمر نتنياهو هذا التردد ليعزز روايته بأن حماس لا تسعى للتهدئة، بل لتثبيت سلطتها حتى ولو على أنقاض القطاع.
الخطير في هذا النهج أن حماس، بحساباتها الضيقة، قد تساهم – بشكل غير مباشر – في تعميق معاناة أهل غزة، وتُفقد القضية الفلسطينية زخماً دولياً نادراً عاد للواجهة خلال الأشهر الماضية. فالعالم بات يتعامل مع الصراع كأزمة إنسانية تستدعي حلاً عاجلاً، بينما تسير الحركة في مسار موازٍ يجعل من بقاء كيانها السياسي شرطاً لأي وقف للدمار.
التخلي عن النفوذ
إن الشعب الفلسطيني في غزة، الذي صمد لعقود تحت الحصار، يستحق قيادة تنظر أولاً لحياته اليومية وحقه في الأمان، لا لبقاء سلطتها أو تعزيز صورتها كـ”مقاومة”. واللحظة الحالية كانت لتشكل فرصة لإعادة تموضع سياسي للحركة، تتيح لها الحفاظ على مكانتها في المشهد الفلسطيني، ولكن دون تعنّت يُترجم ميدانياً إلى مزيد من الضحايا.
بالتأخر في اتخاذ القرار، تُضعف حماس موقفها التفاوضي، وتمنح إسرائيل ذريعة للاستمرار في العدوان تحت شعار “رفض الحركة لأي تسوية”، ما يعكس في النهاية فشلاً في قراءة الميدان والواقع السياسي الدولي. وفي هذا السياق، يبدو أن حماس مطالَبة بمراجعة أولوياتها، والتخلي عن شروط تتعلق بصورتها ونفوذها، لصالح شرط واحد بات أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى: إنقاذ غزة.