يبدو أن الدور الأمريكي في مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزة في الظاهر، حيويًا ومتحركًا، لكنه في جوهره لا يزال حبيس حسابات استراتيجية وتحالفات سياسية تجعل من واشنطن طرفًا غير محايد، بل لاعبًا منحازًا يحاول التوفيق بين صورتين متناقضتين: راعي مفترض للسلام وحليف ثابت لإسرائيل.
فرض ضغوط حقيقية
تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو حول إحراز “بعض التقدم” في مسار المفاوضات، تكرّس النهج الأميركي المعتاد في إدارة الأزمات وليس حلّها. فالكلمات المنمقة حول “أمل بقرب سماع أخبار جيدة”، في ظل استمرار القصف وتفاقم المأساة، تبدو فارغة من مضمون فعلي، وتعكس عجزًا – أو ربما عدم رغبة – في فرض ضغوط حقيقية على حكومة نتنياهو. وهذا ما يثير تساؤلات جدية عن طبيعة الدور الأميركي: هل هو بالفعل دور وساطة، أم هو مجرد غطاء دبلوماسي لتحركات عسكرية إسرائيلية تُنفذ على الأرض دون رادع؟
الولايات المتحدة تملك من أدوات الضغط ما يكفي لإجبار إسرائيل على الالتزام بوقف إطلاق النار، بدءًا من الدعم العسكري السنوي الضخم، مرورًا بالحماية السياسية في مجلس الأمن، وانتهاءً بالتأثير المباشر على صناعة القرار داخل تل أبيب. ومع ذلك، تُمارَس هذه القوة بشكل انتقائي، يراعي إلى حد بعيد التوازن الداخلي الأميركي، واعتبارات الانتخابات، والعلاقة التاريخية مع إسرائيل كحليف إستراتيجي في الشرق الأوسط.
أولويات إسرائيل الأمنية
الامتناع عن الضغط الجاد على نتنياهو ينبع من رؤية أمريكية تعتبر أن أي تقييد للتحرك الإسرائيلي، حتى وسط مأساة إنسانية كالتي يشهدها قطاع غزة، قد يُفسّر على أنه تراجع أمام “الإرهاب”، أو تقويض لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. هذا الخطاب يلقى قبولًا واسعًا في الأوساط السياسية الأميركية، خاصة في أجواء الاستقطاب الداخلي، ما يجعل روبيو وغيره من المسؤولين يترددون في الذهاب أبعد من “الاتصالات” و”القلق”، حتى حين يتعلق الأمر بموت مئات الأطفال وتشريد الملايين.
اللافت في الاتصال الأخير بين روبيو ونتنياهو هو التركيز على “تحرير الرهائن”، وهي قضية إنسانية بالفعل، لكنها تُستخدَم سياسيًا كشرط أول قبل أي وقف لإطلاق النار، ما يعني أن واشنطن، بشكل غير مباشر، تربط وقف القصف بجدول تفاوضي يخدم أولويات إسرائيل الأمنية أولًا، وليس الحقوق الإنسانية للفلسطينيين. بهذه الطريقة، تصبح جهود الوساطة الأميركية وسيلة لتأجيل الحسم، وليس لوقف النزف.
إضعاف الثقة في أي الوساطة الأميركية
النتيجة أن الموقف الأميركي يُعيد إنتاج المعادلة نفسها: تصريحات علنية عن السعي للتهدئة، بينما تُعطى إسرائيل الوقت والمساحة لتنفيذ عملياتها على الأرض. وهذا ما يضعف الثقة في أي “وساطة” أميركية، ويجعل من واشنطن شريكًا فعليًا – لا مراقبًا محايدًا – في استمرار المأساة الإنسانية في غزة، سواء بالسكوت عن الانتهاكات، أو بتقديم غطاء دبلوماسي لها تحت عنوان “الحق في الدفاع”.