لا يمكن لعقل بشري أن يتخيل صورة ماكنة حديدية تطحن جسما بشريا وتحيله إلى كتل من اللحم والعظم. تعجز الكلمات عن وصف ذلك المشهد ويقف التاريخ خجلاً أمام شيء اسمه الإنسانية.
بماذا يختلف أولئك الطغاة الذين يثرمون (يفرمون) شعوبهم بمثارم، ليرموا ما تبقى منها إلى أسماك النهر؟ بماذا يختلف الحاكم الدكتاتور عن أصحاب الغرابيب السود وجنود داعش؟
يسقط الطغاة وتُفتح معهم أسرار قصورهم المليئة برائحة الدم وذاكرة القتل الذي لم يتوقف طيلة حكمهم، ذلك الصندوق الأسود الذي يُفتح لحظة المغادرة.
أقبية وزنازين وذكريات على جدران السجن ومصانع للكبتاغون ورائحة كريهة لمساجين قضوا نحبهم من التعذيب وآخرون فقدوا عقولهم وألسنتهم، وآخرون أدركهم لطف السماء فخرجوا بأقل الأضرار. ذلك هو ملخص نهاية عهد الأسد الذي كان يدعو إلى تحرير الجولان المحتل، في سيناريو انتهى بسقوطه.
سأل أحد المذيعين الرئيس السوري السابق، الذي قتل ما يقارب مليون سوري وهجّر أكثر من ستة ملايين، “هل تنامون الليل؟” أجابه بشار “نعم وأنام مبكرا.” فأي ضمير كان يحمله ذلك الحاكم تجاه شعبه؟
ما حدث في سوريا تنبأ به الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي في القمة التي عُقدت في دمشق عام 2008 حين اجتمع القادة العرب، وذلك في إشارة إلى إعدام الرئيس العراقي صدام حسين: “سيأتي دور كل واحد منكم، ما حدث لصدام ينتظركم أيضا.” المفارقة أن لقطة الكاميرا سجلت ضحكة بشار الأسد من بين القادة الذين كانت أصوات ضحكاتهم تتردد في القاعة.
في غضون ساعات استطاعت إسرائيل أن تدمر ترسانة النظام العسكرية، ومعامله الكيمياوية ومعدات حربية كان يحتفظ بها في معسكراته وأقبيته. ولا ندري سبب هذا الاحتفاظ بهذا الكم الهائل من السلاح وهو الذي لم يطلق طلقة واحدة بوجه الجيش الإسرائيلي. قد يكون احتفظ بهذا السلاح ليقمع شعبه أو يزيد من إذلاله، أو ربما كان يجمع ذلك السلاح كي يصبح هدفا للطائرات الإسرائيلية.
حتى من كان حليفه بالأمس أصبح يتبرأ من ذلك الحلف. وليس غريبا أن حلفاءه في العراق يتهمونه الآن بأنه كان “علّاسا (واشيا) للإسرائيليين” يمنحهم المعلومات عن مواقع تواجد قادة ومقرات الحرس الثوري الإيراني في سوريا، وهم الذين كانوا يُحشدون للقتال إلى جانب حليفهم القديم قبل سقوطه.
نعم، لقد تغيرت المواقف بسقوط الأسد بعد أن تبدلت المصالح. لقد تم تقطيع الهلال الشيعي الذي رسمته إيران، حيث لم يبق سوى العراق بعد أن كان ممتدا من إيران إلى لبنان.
هنيئا للسوريين بعد أن عادت إليهم دمشقهم وحماهم وحمصهم حين رحل عنهم حاكمهم “طبيب العيون” الذي أصابه عمى الضمير منذ سنين.
إقرأ أيضا : الرابحون والخاسرون منذ سقوط الأسد
في كلمات لخصت فرحة الإيرانيين بسقوط الأسد تقول مريم رجوي في جانب من رسالتها “مع سقوط النظام الذي كان في السنوات الـ45 الماضية داعما للفاشية الدينية الحاكمة في إيران بارتكاب أكبر الجرائم بحق الشعب السوري والشعبين الفلسطيني واللبناني، بدأ عصر جديد في هذه المنطقة، وحان وقت إسقاط نظام الملالي. لقد انهار الآن العمق الإستراتيجي للدكتاتورية الدينية في إيران ويجب طردها من جميع دول المنطقة.”
وكأن سيناريو الأسد مشابه للعراق حين منح الإيرانيين والروس الذين دعاهم ليدافعوا عن نظامه قواعد عسكرية ومقرات، وخصّ الإيرانيين بإعطائهم فرص الاستيلاء على مناطق سكنية وتجارية سواء بالشراء والاستثمار أو من خلال وضع اليد عبر ميليشياتهم. كان بإمكان ذلك النظام أن يُشبع شعبه بكل هذه الثروات بدل الغرباء ليدافعوا عنه أوقات الأزمة، لكنه حكّم الطغاة.
سيظل سجن صيدنايا وحبال الشنق السميكة وطوابقه السرية تحت الأرض شاهدا على فترة نظام متوحش، قد تجعل من هذا المكان مسرحا لمن يفكر في إخراج فيلم رعب.
لا نعرف ما يخفيه المستقبل للسوريين إن كان خيرا أو شرا، ولكن نتمنى ألا تتكرر تجربة العراقيين في وطنهم حيث القتل على الهوية والطائفية والسلب والنهب. لكن المؤكد أن القرار سيكون بيد الشعب السوري في تحديد مصيره وأن تبدأ صفحة جديدة للأشقاء تعيش فيها الطيور والعصافير بعد أن رحل عنهم الأسد.