وجّه الرئيس الفلسطيني محمود عباس رسالة واضحة ومباشرة، خلال كلمته أمام القمة العربية الرابعة والثلاثين المنعقدة في بغداد، تعبّر عن موقف السلطة الفلسطينية حيال ما يحدث في قطاع غزة، وما تعتبره انحرافًا خطيرًا عن المسار الوطني الذي يُفترض أن يقود نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
خطابه حمل نبرة تحذير شديدة، وعبّر عن قلق عميق بشأن “المخاطر الوجودية” التي تواجه القضية الفلسطينية، نتيجة استمرار الحرب الإسرائيلية من جهة، والانقسام الداخلي الفلسطيني من جهة أخرى، خاصة في ظل ما تقوم به حركة “حماس” في غزة.
تسليم السلاح
عباس، الذي طالما مثّل تيار التسوية السياسية والتفاوض السلمي، يرى في التصعيد الراهن – سواء العسكري الإسرائيلي أو المقاومة المسلحة التي تقودها حماس – تهديدًا مباشرًا لمشروع “حل الدولتين” الذي تبنته السلطة منذ اتفاق أوسلو عام 1993. وفي رؤيته، فإن الفوضى الأمنية والانقسام الجغرافي والمؤسساتي بين الضفة الغربية وغزة يُضعف الموقف الفلسطيني على الساحة الدولية، ويمنح إسرائيل الذريعة لرفض التفاوض أو التقدم في أي مسار دبلوماسي حقيقي.
الدعوة التي أطلقها عباس لـ”تسليم السلاح” من قِبل حماس وبقية الفصائل في غزة، ليست دعوة جديدة، لكنها جاءت هذه المرة في لحظة شديدة الحساسية، ترافقت مع تصعيد عسكري عنيف، وتزايد أعداد الضحايا المدنيين، وانهيار شبه تام للبنية التحتية في القطاع. ورغم ذلك، اختار الرئيس الفلسطيني أن يُحمّل حماس مسؤولية جزئية لما يحدث، معتبراً أن استمرار سيطرتها على غزة بقوة السلاح هو أحد المعوقات الأساسية أمام إعادة توحيد الصف الوطني، واستعادة الوحدة السياسية والجغرافية تحت مظلة السلطة الفلسطينية.
خارطة طريق سياسية
طرح عباس في كلمته ما يشبه “خارطة طريق سياسية” للخروج من المأزق، تبدأ بوقف الحرب، وتتبع بتوحيد الحكم، وتنتهي بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية “فور توفر الظروف الملائمة”. وهي صيغة تكررت في أكثر من محطة خلال السنوات الماضية، لكنها لم تجد طريقها للتنفيذ، بسبب غياب الثقة بين الأطراف الفلسطينية، والهوة الكبيرة بين رؤيتين متناقضتين: رؤية فتح والسلطة التي تؤمن بالدبلوماسية وحل الدولتين، ورؤية حماس التي تؤمن بالمقاومة المسلحة وموازين القوى كطريق لتحقيق الأهداف.
انتقاد عباس لحماس في هذا السياق لم يكن فقط أمنياً أو إدارياً، بل سياسياً بالدرجة الأولى. فهو يرى أن سلاح الفصائل خارج إطار السلطة يُبقي على حالة من “اللا دولة”، ويجعل من غزة كياناً منفصلاً فعلياً عن المشروع الوطني. كما أن السلاح المنفلت، من وجهة نظره، يبرر الرواية الإسرائيلية أمام المجتمع الدولي بأن “لا شريك فلسطيني يمكن التفاوض معه”، مما يُفرغ عملية السلام من مضمونها.
عمق الأزمة السياسية
حماس لا تُظهر أي نية حقيقية للتخلي عن سلطتها في القطاع، بل ترى في نفسها قوة مقاومة شرعية، تُمثل وجهاً من أوجه المشروع الفلسطيني، حتى وإن اختلفت عن السلطة في الأسلوب والمرجعية.
كلمة محمود عباس أمام القمة العربية جاءت تعكس عمق الأزمة السياسية داخل البيت الفلسطيني، لا سيما في ظل حرب إسرائيلية شاملة على غزة، وانقسام داخلي صار راسخاً ومترسخاً. وبينما يسعى الرئيس الفلسطيني لتثبيت خيار الدولة عبر المسار الدبلوماسي، فإن الواقع على الأرض يُشير إلى تآكل هذا الخيار، وسط غياب أفق تفاوضي، وتوسع استيطاني، وانهيار كامل لفكرة “الدولة القابلة للحياة”.